| مطر عدوان
«كم مرة ستسافرون
وإلى متى ستسافرون
ولأي حلم؟
وإذا رجعتم ذات يوم
فلأي منفى ترجعون
لأي منفى ترجعون؟»
(محمود درويش)
حتى لحظة الكتابة هذه، بلغ عدد شهداء المركب الغريق 73 إنساناً من جنسيات مختلفة (لبنانية – فلسطينية – سورية). تعج المواقع الإلكترونية، وصفحات التواصل الاجتماعي بالأخبار المتتابعة عن هذا المركب وغيره، كما تتتابع تعليقات المسؤولين السياسيين في الأحزاب المختلفة، بتعبيرات تميل تماماً نحو «السياسة»، وحين تشير إلى الأسباب التي تدفع الناس إلى الهجرة، تكون من زاوية النكايات والمزايدات السياسية.
ما الذي يدفع الناس إلى الهجرة وترك أوطانها؟ تعلّمنا في المدارس «حب الوطن» بتلك العبارات الكلاسيكية عن جمال أن يكون لدينا وطن، وأننا ننتمي إلى جنان الله على الأرض، وتعلمنا أيضاً أن نذود عن أرضنا بأرواحنا (وفعلت شعوبنا ذلك مراراً)، لقد كنا صغاراً، وحين كبرنا، اكتشفنا أن من سرقوا أوطاننا من المستعمرين، قبل أن يرحلوا زرعوا بيننا أمثالهم، خونة على هيئة «وطنيين»، يرتدون ما يليق ببروتوكولات الشرف السياسي والدبلوماسي والوزاري والإداري، ويسكنون الفلل والمزارع، والأهم أن بيوتهم لا ينطفئ فيها ضوء، وباقي الوطن عتم.
هل نخون هذه الأوطان حين نغادرها إلى غير رجعة؟ بلداننا، وإن فكرنا أنها بشر مثلنا، فإننا سنفكر بأنها لا تحبنا، فلو أحبّتنا، ما كانت قتلتنا بأشكال مختلفة، وما كانت سمحت لأحد بأن يجعل أطفالنا يجوعون، أو تنقطع أنفاسهم، فأعمارهم، في غمار البحر.
تهجّر الشعب الفلسطيني من أرضه، وظل يحلم بالعودة إلى دياره التي هجّرته منها الحركة الصهيونية من أجل إقامة «دولة لليهود» في فلسطين. وظل اللاجئ الفلسطيني يحلم بالعودة، حتى ركب المراكب ورحل إلى أوروبا، فلا جنسية لديه، لا فلسطينية ولا عربية، بل جنسية أسمّيها «لاجئة» وتعود أصولها إلى بلاد اسمها «لاجئين». فكل مكان في العالم، فيه مضطهد، فيه معتقل رأي، فيه مظلوم، هذا المكان فيه لاجئ ومستعمِر، وكل هؤلاء، هم الأقرب إلى بعضهم، بغض النظر عن جنسياتهم وأعراقهم وأديانهم؛ فكلهم غرباء في ديارهم، وكلهم منها سيرحلون أو يرحّلون.
وربما، حين تخرج المراكب من شواطئ الدول التي تحولت إلى ميناء هجرة – موت محتمل، ويلتقي على متنها عدد من اللاجئين المؤصلين كالفلسطينيين، وعدد من المواطنين، سيفهم الجميع لغة اللجوء، ليس لأن المركب يجمعهم، لكن لأن المواطنين صاروا مثل اللاجئين في بلدانهم، كأنهم بلا بلد، لذلك، ركبوا البحر، ومضوا إلى أي بعيد، عن تلك البلاد التي كانوا يسمّونها «وطن».
ليس لدى الناس في بلادنا أسباب كثيرة أو قليلة، تمنعها من الهجرة، فكل العبارات المعلّبة والجاهزة عن التمسك بالأوطان لم تعد تنفع، ففي الغالب، من يقول تلك الكلمات والعبارات، تاجر لسلعة جديدة اسمها الوطن. لكن ثمة ممكن واحد، أن تعود الأوطان إلى أصحابها، للناس، بناتها وعمادها وحقيقتها.
ربما ارتفعت أعداد ضحايا المركب الآن، وربما وصلت جثة ميتة نحو البر، وربما في هذه اللحظة خرج مركب جديد يقلّ مهاجرين نحو البحر، وعلى أمل أن يصل والجثث الحيّة عليه حيّة.