نبيل مملوك
انتظرت زينة حموي حتى سقوط النظام السوري لتخرج بمجموعة قصصيّة عنوانها “قبل النجاة بقليل” (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر- 2025) تختزل وجع الحرب والمآسي على الصعد النفسيّة والاجتماعيّة والإنسانيّة.
المجموعة التي تضم 17 قصّة قصيرة تتنقّل عبر لغة متسلّحة بالوصف والعاطفة والواقعيّة من مشهد رمزيّ يعطي إشارة أو يعكس جرحاً في الذاكرة السوريّة إلى الحالة النفسيّة التي رسّخها الاقتتال والشرخ الطائفي العرقيّ مولّداً المجتمعات السوريّة القلقة والمكتئبة شرائحها البشريّة داخل الوطن الواحد؛ لنكون أمام عمل يختصر نتيجة الحرب بصيغة إنسانيّة منهكة، موزّعاً تفاصيله النّصيّة بين جانبين خارجيين، الأوّل نفسي يكتب الإنكار والأرق والاكتئاب، والثاني اجتماعيّ ينسج التشرّد والفقر والتفكك المجتمعيّ.
السوريّ الذي أنهكه الأرق والاكتئاب
أخرجت زينة حموي نفسها كتابياً من بوتقة تكرار سرديّة القتل الممنهج الذي اتّبعه أكثر من طرفٍ، مدخلة المتلقّي إلى قلب الصراع الإنسانيّ المستدام بفعل تحوّل الواقع وتقدّم كلّ أشكال القتل على أشكال الحياة، مقاربة أعطتْ عمل حموي سمة التمايز والاختلاف عن أعمال أدبيّة وسياسيّة كانت بمثابة توثيق للمآساة من دون أي نبرة سرديّة إبداعيّة أو تحليليّة، ففي قصّتها “جميلة وهناء” دخلت حموي حكائياً إلى قلب مخيّمات النازحين، لتنقّب عن الأحلام المدفونة بالاضطرابات النفسيّة على غرار الذهان والاكتئاب والقلق والتقوقع في الماضي “في إحدى زيارات رزان للمخيم أخبرتها هناء أنّها تودّ دراسة الإخراج… وأنّها ربّما تصير زميلة لليث حجو”! (ص.62 ) استحضرتْ الكاتبة هنا الليث حجّو كمثال على المخرج المبدع في تاريخ سوريا المعاصر، ولتعكس أيضاً حجم الدمار الذي لحق بمدينة الأحلام التي بنتها مخيّلة هناء والتي تحاول ترميمها في المخيّم الأزرق الأردنيّ، المكان المغلق الذي يمثّل أماناً وعاملاً مساعداً لشخصيّة فقدت أسرتها خلال الحرب والتهجير القسريّ.
غلاف المجموعة القصصية.
غلاف المجموعة القصصية.
لم تكن القصص القصيرة التي كتبتها زينة حموي على الصعيد النفسي تعتمد على شكل حكائيّ أو قصص مترابطة من حيث الأزمة والتشخيص النفسيّ، بل تنوّعت واختلفت ظرفياً، فكاتبة قصّة “فلوكسيتين” نجحت من خلال اختيار اسم الدواء المثبّط للاكتئاب عنواناً لقصّتها في جذب انتباه القارئ نحو مأساة يخجل في التعبير عنها أو ندبة نفسيّة يخاف من إظهارها والإقرار بضرورة العلاج منها، فضلاً عن ذلك، فقد ساعدتها تقنيّة القصص المضغوطة لشخصيّات لا تربطها سوى علبة “فلوكسيتين” في رسم موزاييك الألم النفسي السوريّ بأشكال وألوان متعدّدة من دون تمييز جنسيّ أو ذكر لتفاصيل مناطقيّة.
تتعاطى حموي مع الإنسان في قصصها بصفته المجرّدة من كلّ ما يدخله في آتون الصراعات والأيديولوجيّات، وتأخذه نحو آلامه ويوميّاته المتشابهة.
لوحات أثبتت من خلالها الكاتبة أنّ الاضطرابات النفسيّة الناتجة من الحرب تصنع إنساناً ينسلخ عن مجتمعه العامّ ووطنه بحثاً عن مجتمع.
الرؤية الاجتماعيّة لوطن متلاشٍ
في قصة “بيت يسكن في رجل” تعطي زينة حموي وبشكل لاواعٍ الفكرة الرئيسة التي بُنيت عليها المجموعة القصصيّة ككلّ، فبعد عنوانها الأساس “قبل النجاة بقليل” الذي توسّلت خلاله إعطاء نصوصها ظرفاً زمنياً يرتبط بآخر مراحل الحرب السوريّة وذروة الأسى السوريّ، يأتي عنوان هذه القصّة ليخبرنا عن هاجس السوريّ الحقيقي: “المكان”، فالمكان الأكبر المتمثل بالمدينة والريف والحيّ والمخيّم ظهر في مجموعة زينة حموي القصصيّة على شكل بقعة تحتبس فيها المآسي وتحاول الشخصيّات الهرب منها عبر الأحلام التي كانت في حيوات سابقة حقوقاً: “هل أنت مسلّح/ لا/ ولماذا أنت خارج بيتكَ إذاً؟/ خرجتُ لأجلب حليباً لطفلي الصغير ولم أستطع العودة” (ص.112). تشكّل هذه الحواريّة المبنيّة على استجوابٍ وترهيب رؤية الكاتبة الاجتماعيّة إلى وطنها، المبنيّة على سلب الحقوق (تأمين القوت اليوميّ) وتحويله إلى حلم (المسألة تؤكّد أنّه صار بمثابة حلم)، ما يعكس خلاصة مهمّة مفادها انتفاء الوطن والمواطنة، وتهشّم الهويّة الإنسانيّة التي لا يشير أي تيّار أو حركة سياسيّة أو اجتماعيّة إليها.
أخبار سوريا الوطن١-النهار