الياس المر
صدر عن الرئيس الإيراني مؤخرًا العديد من المواقف التي شكلت انعطافة عن سابقاتها التقليدية التي كانت تصدر عن جميع طبقات التركيبة الإيرانية السياسية الأمنية والعسكرية منها، لا سيما المؤسسات الحكومية وتعبر عنها رئاسة الجمهورية ووزارة الخارجية والأمنية ويعبر عنها الحرس الثوري التي تعكس أجواء ومضامين المرشدية العليا للثورة،
يلعب بزشكيان خارج الأطر التقليدية وهو الإصلاحي الذي وصل إلى السلطة خلفاً للرئيس المحافظ الراحل ابراهيم رئيسي، الذي تم انتخابه بالتالي على خلفية أو إبان اغتيال الشهيد قاسم سليماني في بغداد.
في عهد رئيسي المحافظ وقعت إيران العديد من الاتفاقيات التاريخية، كان أبرزها معاهدة بيجين، التي أوقفت عقودًا من الخلاف لا بل الصراع مع السعودية، طاوية بذلك فصول من العمل على الفتنة السنية الشيعية من خلال التوترات بين الدولتين المرجعيتين بالنسبة لكلا المذهبين، ومغلقةً أبواب عُمل عليها لسنوات سياسياً وميدانياً استنزفت دولاً وسنوات طوال من الصراع، تجلى أبرزها في العراق وسوريا في عقد كاملٍ من الزمن،
بالرغم من التغيرات المفصلية في الظروف السياسية والعلاقات الإيرانية الخارجية، الا أن الخطاب السياسي بقي على نفس الوتيرة واللغة والنهج في عهد رئيسي، تجاه الخصوم والحلفاء، الصراع الكلامي مع أميركا، بمقابل الضغوطات والعقوبات، الاتحاد الأوروبي الذي وقف عاجزاً أمام إلغاء الاتفاق النووي، تجاه الحلفاء أيضا في محور المقاومة من اليمن الى لبنان،
الاّ أن وصول بزشكيان قد أعطى السياسة الإيرانية لهجة جديدة للتعبير عن نفسها، إلا أن هذه اللهجة أو اللكنة، فرع لذات اللغة الإيرانية ولا جديد فيها إلا طريقة التعبير، فطريقة التعبير عن السياسة الداخلية أو الخارجية إن تبدلت فلا تعني أبدا التبدل في الخط الاستراتيجي العلوي لسياسة الدولة، فبالإضافة الى أن السياسة الاستراتيجية لإيران لا تضعها الحكومة التي يعبّر عنها رئيس الجمهورية بل هي الخط البياني للمرشدية العليا، هي التي ترسم الخطوط التي يمكن للأحزاب المحافظة والإصلاحية منها، أن تتحرك ضمنها، وإلا يعد ذلك خروجا عن خط الثورة ولذلك تبعاتٍ شرعية وتشريعية،
لبزشكيان الإصلاحي عدّة أهداف في هذا المفصل من زمن الثورة وفي عمرها الأربعيني، بعد أن تخطت مخاطر المراهقة واندفاعة الشباب وها هي على أعتاب النضوج وما له من مزايا البصيرة والحكمة، فلا يمكن لإيران أن تبقى ثورة دائمة مستمرة بوتيرة واحدة ومتصاعدة، فلا بد للثورة أن تهدأ أيضا، أن ترتاح لتكمل المسيرة، من حقها أن تلتقط أنفاسها وتتنفس الصعداء، لتبقى جاهزة وحاضرة قوية ومتماسكة، هذه هي مرحلة بزشكيان، لمن لا يفهم ولا يجيد القراءة بين السطور الفارسية، أن يعيد النظر في بهجته ونشوته من تصريحات الرئيس الإصلاحي التي حورت وتم التلاعب بها في الإعلام الغربي قبل أن يتولى وزير الخارجية توضيحها في الساعات اللاحقة،
تحويل النهج من العسكرة فقط الى الدولة الديبلوماسية التي تقبض على الزناد، هذه مهمة بزشكيان، ليرفع الذريعة ويسحب عنصر الدعاية والترويج من السياسة والإعلام الغربي، ويفشل مخططات “الإيرانوفوبيا” أو شيطنة إيران أو الرهاب الإيراني،
إيران تريد السلام، والحوار والانفتاح على الجميع بمن فيهم أميركا، الشعب الأميركي ليس عدواً لإيران، هذا ما صرح به الرئيس وحاول الإعلام الغربي ومعه بعض الإعلام “القريب” الأعمى أو المطبل والمنهار أن يستثمروا بسوء نية أو غباء هذا التصريح وأخذه بغير مساره وموضعه الصحيح، غير صحيح أن إيران دولة حرب فقط، ومقاومة فقط، وصواريخ وإمداد ومساندة للجماعات المقاومة وهي بذلك على حق، ولكنها ليس ذلك فقط، إيران دولة علم وجامعات، أبحاث ومعامل إنتاج، اختراعٍ ومواد أولية واقتصاد عملاق بالرغم من الحصار المجحف والعقوبات المجرمة، إيران دولة استراتيجية بنظامها وسط المجتمع الإسلامي بعلاقاتها الخارجية وبموقعها الجيوسياسي على الخارطة الدولية، ودولة سياسة وديبلوماسية محنكة محترفة تحفر الصخر بالإبرة، أجبرت الدول الكبرى جمعاً الجلوس معها على طاولة المفاوضات منذ عقود ولا زالت.
كسر الصورة النمطية وكسر الدعاية الغربية بأن إيران دولة عسكرة وحرب وسلبية ودمار وبالتالي أن الدول حلفاء إيران تعيش النكبة الدائمة والجوع والتخلف والحصار، واحدة من مهام بزشكيان إلغاء أو تبديل المفهوم الخاطىء بأن هناك محورًا أو دولا أو شعوبا للموت، وأخرى للحياة والرفاه
بزشكيان من خلال هذه اللهجة المختلفة دون أي تبدل في السياسة الإيرانية لا على المستوى التكتيكي ولا الاستراتيجي ينقل الطابة الى ملعب الخصوم، ليبحثوا هم عن الحلول ويجيبوا عن الأسئلة الشائكة حول السلم والسلام الدولي وينزع الذريعة من تحميل إيران وحلفاء مسؤولية الحروب والأزمات في المنطقة من البحر الأحمر الى شرق آسيا والشرق الأوسط ويكشف الصورة الحقيقية، أن الصراع ليس بسبب إيران بل بسبب ازدواجية المعايير في النظام العالمي الذي يرمي التهم على الضحية ويعلق نياشين التكريم للجلاد والذي يعتمد نظام الأحادية القطبية والفوقية.
بزيشكيان يفهم اللعبة جيدا وإيران تدرك مفاصل المرحلة ومتطلباتها وأن تدع الثوابت الإيديولوجية والمبدئية تمنعها من ليونة الحركة ومواكبة العصر والحداثة والمتغيرات السياسية بل ستخلق من قلب المبدئية والالتزام، دينامية تجعلها قادرة على قراءة ودراسة المتغيرات والتعامل معها.
وفي السياق، على بعض المتفائلين أو المتوجسين المراهنين على الدعاية الخارجية والذين لا يفقهون إلا اللعب على الكلام والحبال ولا يجيدون إلا الرهانات الخاطئة، ألا ينصدموا وألا يترحموا على أيام الرؤوساء المحافظين بعد التعرف على الحكومة الإيرانية.
(سيرياهوم نيوز1-الأفضل نيوز)