السفير الدكتور جواد الهنداوي
قراءة أخرى لانها تسلّط الضوء على الخاسر والرابح سياسياً و استراتيجياً وليس رقمياً و آنيّاً، ولانها أيضاً تعرض وتدرس اسباب وتداعيات الخسارة والفوز، ولانها تستنج عِبرْ و دروس، قد تكون نافعة للأحزاب والسياسين في الدول الديمقراطية القائمة سياسياً على مبدأ تداول السلطة.
فازَ حزب الجبهةً الوطنية او اليمين الأقصى او اليمين المتطرف، وبزعامة السيدة مارين لوبن، في المرتبة الاولى، في انتخابات البرلمان الأوربي، والتي جرت، في الدول الاوربية ، بتاريخ 6-9 حزيران الماضي 2024.
كذلك فاز الحزب ، وفي المرتبة الاولى ايضاً ، في الجولة الاولى للانتخابات التشريعية الفرنسية ،و التي جرت بتاريخ 2024/6/30 .
سياساً ،حقق الحزب نجاحاً و فوزاً ، لم يحلم بهما ،ولم يتوقعهما منافسوه ، كما نجح في حرمان الاحزاب المنافسة الأخرى من اليمين او اليسار من الفوز بالاغلبية المطلقة ، و له اليوم 135 مقعداً برلمانياً من اصل 577 مقعد ، مقارنة ب 89 مقعداً في الانتخابات التشريعية لعام 2022 .
حزب التجمّع الوطني ( تسميّة حّلت محل حزب الجبهة الوطنية ) بقيادة السيدة مارين لوبن ،له المرتبة الاولى أوربياً على الاحزاب الفرنسية ،وله المرتبة الثالثة ،من حيث عدد المقاعد في الجمعية الوطنية الفرنسية ( مجلس النواب ) .
نجحَ الحزب في مساره السياسي حتى و ان فشلَ اليوم في الفوز بالمرتبة الاولى في الجولة الثانية للانتخابات التشريعية ، و فشله لم يكْ امام حزب آخر ، و انما امام تكتّل و تجمّع من الاحزاب . هذا النجاح والتقدم المضطرد للحزب يجعلان بقيّة الاحزاب والتكوينات السياسية التفكير جدياً ،ليس بمقاطعة الحزب ،كما جرت العادة ،و انما التعايش و التفاهم ،و لربما الحاجة إلى التكتّل معه .
الرابح الآخر في الانتخابات هو التجمع الشعبي والذي يضّم الاحزاب اليسارية ولاشتراكية وحزب الخضر. فاز هذا التجمع بالمرتبة الاولى في الجولة الثانية للانتخابات التشريعية في فرنسا ، و حصُلَ على 190 مقعد ، مقارنة بالعدد الذي حصل عليه في انتخابات عام 2022، وهو 130 مقعد. ويُعدْ فوز التجمع الشعبي وبقيادة رئيس حزب فرنسا الأبيّة، السيد جان لوك ميلونشون فوزاً سياسياً و رقمياً .
الرابح الثالث في هذه الانتخابات التشريعية هو حزب الرئيس ماكرون ، أسّسهُ عام 2016 , وباسم “الجمهورية إلى الأمام”، ليصبح عام 2022 بأسم “حزب النهضة”. صحيح لم يحظى الحزب في المرتبة الاولى لا في الانتخابات الاوربية، ولا في الانتخابات التشريعية الفرنسية، ولكنه، مع ذلك حصلَ على 165 مقعداً في الجمعية الوطنية ،حيث يأتي بالمرتبة الثانية بعد حزب التجمع الشعبي اليساري. اعتبرهُ رابح سياسي لحجمه البرلماني ، و قياساً بتاريخه السياسي القصير ،مقارنة مع الاحزاب السياسية الأخرى .
الخاسرون في هذه الانتخابات هم الاحزاب التقليدية ،وخاصة حزب اتحاد اليمين و الذي يُعتبر امتداداً للحركة الديغولية ،وكذلك الحزب الاشتراكي الفرنسي ،والذي انضّمَ تحت قيادة حزب فرنسا الأبيّة .
ولكن لماذا تراجعَ حزب التجمع الوطني (اليمين الأقصى او المتطرف)، من المرتبة الاولى في الجولة الاولى للإنتخابات إلى المرتبة الثالثة في الجولة الثانية من الانتخابات؟
يعزوها البعض إلى تصريحات ذات طابع عنصري لبعض قياديه بعد الفوز الذي حققه الحزب في الجولة الانتخابية الاولى، مما اثار مخاوف شريحة كبيرة من الشعب الفرنسي ذات الأصول العربية و الأفريقية و الإسلامية ، مخاوف وظفّتها الاحزاب اليسارية و الاشتراكية المنضوية تحت راية التجمع الشعبي ،والذي فاز بالمرتبة الاولى في الجولة الثانية للانتخابات. ومن بين الاسباب ايضا هو التفاهم والاتفاق الذي أُبرم بين التجمع الشعبي و حزب الرئيس ماكرون والاحزاب الأخرى للحيلولة دون فوز اليمين المتطرف، اتفاق على آلية سحب مُرشحين من كلا الطرفين لضمان عدم تشتت الأصوات ولضمان فوز المُرشحين الذين اعتمدوا من كلا الطرفين.
وما تجدرُ الاشارة اليه والاشاده به ايضاً هو سرعة ردود فعل واتفاق التجمع الشعبي اليساري و حزب النهضة (حزب الرئيس ماكرون)، على آلية العمل والترشيح و التأثير على القواعد وعلى الرأي العام من اجل منع حزب التجمع الوطني من الفوز بالجولة الثانية . نجحوا في مهمتهم، وفي غضون اسبوع واحد ، بفصل بين الجولة الاولى و الجولة الثانية للانتخابات. اسبوع واحد من الزمن كان كفيلاً وكافياً لتغيير مسار التصويت و توجيهه من صالح التجمع الوطني اليميني المتطرف إلى صالح التجمع الشعبي اليساري.
السؤال الآن، والذي لا يخلو من اهميّة هو: هل سيستمر هذا التفاهم و التوافق بين التجمع الشعبي اليساري، والذي يضّمُ شريحة كبيرة من المستضعفين، وحصته في الجمعية الوطنية (مجلس النواب) 190 مقعد ، و حزب النهضة (حزب الرئيس ماكرون) الوسطي الارستقراطي، وحصته في الجمعية الوطنية 165 مقعد؟
الاتفاق بينهم هو اسهل الطرق لتشكيل حكومة جديدة تنال ثقة الاغلبية .ليس للرئيس ماكرون سوى خياريّن لتشكيل الحكومة : إمّا الاتفاق مع التجمع الشعبي اليساري و إمّا الاتفاق مع التجمع الوطني اليميني المتطرف ،و الخيار الأخير ،حسبما اعتقد ،مستبعد جداً .
الاتفاق بين الرئيس ماكرون و التجمع الشعبي اليساري ممكن و ممكن جداً ،ولكن بثمن ، وثمنه هو ان يكون رئيس الوزراء من التجمع الشعبي اليساري ، يعني ستدخل فرنسا ،مرّة اخرى ،في حالة التعايش في الحكم بين رئيس من الوسط المائل إلى اليمين ، ورئيس وزراء يساري ، يتبنى برنامج سياسي مختلف تماماً عن طموحات و اهداف الرئيس ماكرون سواء على صعيد السياسة الداخلية او على صعيد السياسة الخارجية ، ولم تخفْ قيادة حزب التجمع اليساري نيتها بالاعتراف في الدولة الفلسطينية ، و أ فصحت عن هذه النيّة صراحة في احدى خطابات القيادة عشيّة فوزهم في الانتخابات .
تعايش سياسي بين رئيس الجمهورية و رئيس وزراء مدعوم بكتلة نيابيّة كبيرة و بارادة سياسية شعبية مصممة و عازمة على التغيير .
هل يسود جو التعاون على هذا التعايش المفترض ؟
لا يخلو الأمر من صعوبات وتحديات جادة ،لاسيما وكل طرف يتحيّن فرصة و مناسبة لاضعاف الطرف الأخر لأنَ ، و ببساطة ، ينتظرهما تحدي انتخابي رئاسي عام 2027 .
مَنْ سينتفع من سوء التعايش السياسي ؟
حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف هو الذي سيستفيد من سوء نتائج مرحلة التعايش بين الرئيس و رئيس الحكومة ،وسيوظف سوء المسار بينهما وسوء النتائج للانتخابات الرئاسيّة القادمة .
سيرياهوم نيوز 2_راي اليوم