نهوند القادري عيسى
توزّع مجمل إنتاج جورج قرم على موضوعات مترابطة، وذات انعكاسات متداخلة، لكنها تشكّل وحدة معرفية مترابطة، وهي تتصدّى لمعالجة أزمة التحديث والتنمية بشكل عام. بدءاً من البحث في جذور المشكلة من خلال مؤلّفه «تعدّد الأديان وأنظمة الحكم»، مروراً بمؤلفاته حول لبنان («مدخل إلى لبنان واللبنانيين»، «الإعمار والمصلحة العامة»)، وحول المنطقة العربية ككل، «التبعية الاقتصادية» و«التنمية المفقودة» و«انفجار المشرق العربي»، وانتهاءً بمؤلفَيه «أوروبا والمشرق العربي» و«الفوضى الاقتصادية العالمية الجديدة».
مقالات مرتبطة
أن تكون عروبيّاً هو أن تكون نهضويّاً معن بشور
مفكراً ومناضلاً وشاهداً على وهم صراع الهويّات عبد الحليم فضل الله
العروبي حتى الرمق الأخير وليد شرارة
تركيا – تكلفة زراعة الأسنان بالفم الكامل قد تفاجئك تمامًا
زراعة الاسنان في تركيا
بهدف إلقاء الضوء على خلفيات المشاكل التي يعانيها العالم العربي، كان مؤلَّف قرم «تعدّد الأديان وأنظمة الحكم»، والذي هو عبارة عن دراسة سوسيولوجية وقانونية مقارنة تعنى بالموزاييك المعقّد لثقافة البحر المتوسط وحضارات الشعوب منذ آلاف السنين حتى اليوم، تبحث في جذور النظام الطائفي منذ العهود القديمة حتى بروز ظاهرة الصهيونية وتكريسها في قلب الوطن العربي. ولقد بيّن قرم كيف ارتبطت، منذ العصور القديمة، حالة العلاقات بين الإمبراطوريات والملكيات الساعية إلى الهيمنة على تلك المناطق الاستراتيجية جغرافياً والحساسة سياسياً، وكيف أنه من جراء هذا الاستغلال المفضوح للعنصر الديني دخلت المنطقة في رياح الحركات الأصولية المتناقضة الأهواء بين مراجع دينية متنافسة تدّعي جميعها مكافحة الشيوعية وتمدّ تلك الحركات بالمال والسلاح وشتى أنواع المساعدات وبخاصة الإعلامية. وأخذ التنافس طابعاً حادّاً تجسّد في مزايدات مستمرة بين الحركات الأصولية في الغلوّ الديني ورفض مفاهيم الدولة الحديثة المبنية على القانون الوضعي. ووصل الأمر مراراً إلى فلتان هذه الحركات من أيدي المراجع الدينية والدول التي تساعدها وتموّلها. ليتوقّع قرم أن العالم العربي أصبح على مفترق طرق، وأنه سيشهد في السنين القادمة تقلبات جسيمة وتحولات خطيرة لا بد من التهيؤ لها.
بعد العرض التاريخي المركّز حول تكرار ظواهر الاستدانة الخارجية لدول العالم الثالث من قرن إلى قرن، وضع قرم في مؤلفه «التبعية الاقتصادية – مأزق الاستدانة في العالم الثالث» المعالم التوضيحية لدراسة معادلة التحديث المفقود في العالم الثالث، مشيراً ببعض التفصيل إلى العلاقة القائمة بين الرؤية التنموية الخاطئة وبين مصالح الدول الصناعية ومصالح الفئات القيادية في العالم الثالث وضيق أفق هذه القيادة، ومنتقداً دور البنك الدولي ونوعية علاقة هذه المؤسسة بالقطاعات المالية والمصرفية «الحديثة» في الدول النامية، من دون أن يغفل تبيان الروابط العضوية الكائنة بين استدانة المال واستدانة التكنولوجيا بشكل يستحيل معه توطين روح التقدّم التقني المستقل والمركّز ذاتياً عبر كل شرائح المجتمع. وختم قرم دراسته بدعوة صريحة إلى إعادة النظر في طرق عمل البنك الدولي وكذلك المصارف المحلية في العالم الثالث، بحيث تكون الأنظمة المالية المحلية أداة تقدّم فعلي بدلاً من أن تكون أداة لتعميق التبعية والاستغلال.
ويعالج قرم في مؤلفه «التنمية المفقودة» الأسباب الحقيقية وراء تساقط الكثير من المفاهيم التي كان العالم يقبل بها دون تردد أو تحفّظ، ومن ثم يجري نقداً لممارسة العالم الثالث، بما فيه الوطن العربي، تجاه معضلات التنمية. وهذا ما دفعه إلى اعتماد مقاربة مزدوجة للمعضلات التي يطرحها استمرار التخلّف: تحليل تقني لعوائق التنمية، وتحليل على مستوى الإدراك العقائدي والفكري لهذه المعضلات من قبل النخب القائدة في العالم الثالث. ليجد أن عجز الطبقات المسيطرة يعكس العجز الثقافي في تناول الواقع وفشل مثقفي البلدان المستغلة في إيجاد أدوات التحليل، وبالتالي إيجاد اللغة العقائدية الملائمة لتغيير الواقع. لهذا، يرى قرم أنه لا بد من تمحيص كل المعضلات المتعلقة بالإدراك الفكري لنخب العالم الثالث لأوضاعهم الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، ذلك الإدراك الذي يشوبه فهم تصوري ناقص تتأتى أهم مصادره مما دعاه قرم «الأيديولوجيات المبتذلة للتنمية، سواء كانت متمركسة أو نيوكينزية. ففي الحالتين، تُفهم التنمية بطريقة ميكانيكية، وكأنها كتلة مالية أو مادية يحقن بها المجتمع بهدف الحصول على زيادة في الدخل القومي، ويأتي الغش الرياضي هذا ليقوي التضليل الفكري في عملية بناء نماذج مرقمة توهم بالدقة، وعليها تقوم مناهج التخطيط». ويخلص قرم إلى وضع تصوره الخاص لمعضلة التنمية بالقول إنها تكمن قبل كل شيء في التحكم بتغيير الإنتاجية العائدة لمجتمع ما تسمح لها بالتكيف مع التغييرات البيئوية. أما كمية رأس المال المخصص للتوظيف فتبقى موضوعاً ثانوياً في هذا المجال.
بدا رؤيوياً في أكثر من موضع، موسوعياً يربط الاقتصاد بالسياسة، بالاجتماع، بالقانون، بالتاريخ، يتنقّل بين المحلّي والإقليمي والعالمي، يربط العوامل المحلية بالعوامل الخارجية
وفي مؤلفه «انفجار المشرق العربي – من تأميم قناة السويس إلى اجتياح لبنان»، يعي قرم صعوبة التصدي لتفسير ما يدور في الشرق الأدنى العربي والإمساك بالواقع المتحرك والمعقد في هذه المنطقة بروح من الدقة وعدم الغلو. فإلى جانب صعوبة رصد المعطيات السياسية والدينية والاقتصادية والثقافية الفاعلة في مجرى الأحداث وفهمها من منظور متلاحم، تعترض السبيل عقبة دائمة تتمثل في الأهواء والأحكام المسبقة التي تمسك بخناق المراقب، أمِن الشرق كان أم من الغرب، فضلاً عن علاقة التجاذب والتنافر بين الشرق والغرب والتي يمرّ خط توترها العالي بالشرق الأدنى، يضاف إلى ذلك التشويهات المريعة للوقائع بفعل الأيديولوجيات. لذا، حدّد قرم غايته المتمثلة في فضح تلك الرؤى المغلوطة وتعرية عناصرها لمصلحة نظرة متعقّلة، فهو حاول قراءة تاريخ المشرق العربي المعاصر من خلال منظور تفسيري متماسك يتيح، للعربي وللغربي على حدّ سواء، إمكانية فهمه في حدود المستطاع.
ويستكمل قرم رحلته التاريخية بين الغرب والشرق في مؤلفه «أوروبا والمشرق العربي – من البلقنة إلى اللبننة» ويحاول من جديد وصف التفاعل السياسي والحضاري الفاشل بين جهودنا النهضوية منذ القرن الماضي ومسيرة التقدّم الغربي المسيطر على مسار العالم بأجمعه، مشيراً إلى الصعوبة التي تواجه المؤرخ العربي في استكشاف قواعد اللعبة المعقدة التي تحتم التأثير المتبادل بين العوامل الداخلية والخارجية. ويختم مؤلفه بالقول: «عندما وضعت هذا البحث لم تكن أوروبا الشرقية قد تحررت من هيمنة الاتحاد السوفياتي ونظام الحزب الواحد، لكنّي تنبّهت إلى إمكانية عودة المشاكل القومية في كل من الاتحاد السوفياتي وأوروبا الوسطى والشرقية في حال انهيار النظام الشيوعي». كما لفت النظر إلى المحاولات التي كانت جارية عام 1987 و1988 لخلق الظروف المناسبة لتنظيم هجرة المواطنين من الدين اليهودي في تلك البلدان إلى «إسرائيل» بشكل واسع. يقول قرم: «كل هذا حصل لسوء الحظ ونحن العرب ما نزال نتأخر عن استيعاب الأحداث والتصدي لها». برؤية مستقبلية، ينهي بالقول: «ما أخشاه هو بعد انهيار جدار برلين أن ينتقل جدار الحديد إلى منطقتنا ويصبح جدراناً تفصل بيننا وبين العالم الخارجي من جهة، فتأكلنا رياح التشنّج الديني وتفصل بين المشرق والمغرب العربي».
ويحاول في مؤلفه «الفوضى الاقتصادية العالمية الجديدة – جذور إخفاق التنمية» إعادة كشف معنى للاقتصاد السياسي، محللاً، بمقاربة مبتكرة، هذه الفوضى الاقتصادية العالمية الجديدة الناجمة عن عوامل مركبة، منها: إفقار الفكر الاقتصادي، انكفاء علم الاقتصاد السياسي لمصلحة الصيارفة والإحصائيين والرياضيين والمدبرين الماليين ورجال الأعمال، استمرار الرؤى الأيديولوجية للتنمية، ضياع الاقتصادي بين النماذج النظرية المجردة والوصفات الزائفة للحداثة الاقتصادية، إساءة استعمال السرية المصرفية، تفشي اقتصاد الفساد أو ما يسمّى بالاقتصادات الجوفية أو الخفيّة، وفي أحسن الأحوال الاقتصادات الريعية غير المنتجة. فيما يتعدّى هذا النقد، فيدعو المؤلف إلى وجوب فتح الملفات المذكورة بمنتهى الجرأة وبعث اقتصاد حقيقي من خلال صياغة جديدة للدولة وللاقتصاد بمفردات المنطق والعدالة.
بهذه المنهجية وبتلك المقاربة، يتصدّى قرم في مؤلفَيه حول لبنان إلى قضايا العمران وقضايا الإصلاح مصارحاً القراء بخلفيته الذاتية التي تتحكم بمواقفه وبنظرته إلى واقع لبنان ومصيره.
بالإجمال، يحمل مجمل إنتاج جورج قرم أفكاراً مكثفة، متحررة، محبوكة بمنهجية علمية متساوقة، تخاطب عقل القارئ وتحرّك تفكيره في عدة اتجاهات، وبرشاقة تأخذه إلى الماضي وتربطه بالحاضر وتطلّ معه على المستقبل، فبدا رؤيوياً في أكثر من موضع، موسوعياً يربط الاقتصاد بالسياسة، بالاجتماع، بالقانون، بالتاريخ، يتنقّل بين المحلي والإقليمي والعالمي، يربط العوامل المحلية بالعوامل الخارجية. يشخّص، يحلّل، يرسم معالم الخروج من الأزمات، يطرح المعضلة ويطرح مسألة الوعي بها. وأهم ما نمَّ عنه إنتاج قرم أنه باحث يصعب تأطيره، يفكر باستقلالية عن الأيديولوجيات والمفاهيم السائدة والاتجاهات المهيمنة، يؤمن بالعدالة وبتكافؤ الفرص، يسائل شرقاً وغرباً، لذا سبّب له نتاجه الفكري والبحثي في أكثر من مرة خلافاً مع من كانوا بالأساس معنيّين بنشره.
ونحن إذ نفتقدك في هذا الظلام، لا يسعنا إلا أن ننحني أمام إرثك الفكري النيّر المتحرر من اللوثة الكولونيالية، ونشدّد على أهمية العودة إلى إنتاجك الفكري الذي عزّ نظيره، علّنا نعيد النظر في ما نحمله من أفكار وطروحات مشوّهة.
لروحك السلام الأبدي، منك أيّها العالِم المتواضع تعلّمنا الكثير.
* أستاذة جامعية
سيرياهوم نيوز١_الاخبار