محمد خالد الخضر:
عندما نقرأ المجموعة الشعرية (الحب والحلم والحياة) للشاعر جهاد الأحمدية نجد أن الحب العذري يتجلى في هذه المجموعة كظاهرة شعرية متكاملة في خصائصها وبنائها الفني وتدفقها الشعري ما يدل على وجود الموهبة الحقيقية وإن اختلفت طريقة الكتابة عند الشاعر عن سابقيه، لاسيما أنها تحمل ملامح البدايات عنده؛ إذ إنها بمثابة الطبعة الثانية للمجموعات الثلاث الأولى عند الشاعر. فالقارئ لهذه النصوص يستشف منها نسائم البدايات التي تحمل في طياتها بذور موهبة فذة تتبدى في صور مبتكرة موشَّاة بنفحات فنية مميزة دون التخلي عن المقومات الشعرية الموروثة. فيقول في قصيدته (قمر):
“إسوارتان بمعصمي بردى
هدباك .. يا قمري
وسحابتان بأفقه الريانْ
جفناك .. فانهمري
وقصيدتا غزلٍ
عيناك ساهرتانْ
تتبادلان مع الحروف
مواسم الزَّهَرِ
وعلى دروبِ العمرِ
طولَ العمرِ باقيتانْ
وشماً بذاكرتي،
ضاداً على شفتي،
وطناً لأغنيتي،
لحناً على وتري.” ص 19
تتجلى في القصائد حالات روحية سامية بأبعادها الإنسانية والعاطفية وتأتلف المكونات اللغوية والوجدانية لتتوجَ أصالة الطرح وتبوح بالتَّآخي بين عمق الرؤيا وجمالية التعبير. واللافت عند الأحمدية استخدامه العفوي للإيقاع الموسيقي المتناغم مع الحالة الوجدانية ما يحقق الانسيابية والمرونة في توصيل المكونات الجمالية إلى مستقبِلات المتلقين مهما تنوعت ثقافاتهم وتعددت اهتماماتهم.
ونراه يستعين بما يمتلكه من الحس الجمالي والخيال الشعري الخصب ليرسم بالحركات والسكنات المتناغمة مع الصور ومع المكان والموضوع ولكي يتحف قارئه بالابتكارات المبدعة ويحلِّقَ به إلى البعيد البعيد ليعيش مع الأساور الجميلة ومع بردى الغالي والأجمل. ثم يتابع مع عواطفه التي لا تغادرُ عالمه الداخلي فتنشأ العلاقة الصادقة بين الشاعر وبين من يحب من جهة، وبينه وبين من يتلقون شعره من جهة أُخرى. وهذا يتجلى في قصيدته (الجوكندا)
“مَن علَّمَ الأطلالَ
رقصَ العاشقاتِ مع الغروبِ
سواكِ أنتِ؟
مَن علَّمَ الآمالَ
نسجَ خيوطِها بجوارحي
إلاَّكِ أنتِ؟”
ولا بدّ من الاستنتاج أن النصوص زاخرةٌ بما يشيرُ إلى امتدادها في الزمان والمكان واحتفائها بمخزون ثقافي غير قليل يفصح عن ملامحه في مواضع كثيرة تمتد على مساحة القصائد المتضمَّنة في الكتاب. ولا شك أن استحضار الموروث الثقافي يلعب دوراً أساسياً في التأثير على مجتمع المتلقين لاسيما عندما تتدخل الموهبة الفاعلة في تحويله إلى مادةٍ جمالية رشيقة تتسلل إلى وجدانهم وتطيب لذائقتهم النفسية والفكرية وتؤدي مبتغاها في التأثير الفعال في مكونات المجتمع لما تحمله من مؤثرات وجدانية تكرس القيم النبيلة .. وهذا نجده في تشكيل الفضاء الإبداعي في قصائد جهاد الأحمدية التي لم تغب عنها مفردات البيئة الاجتماعية والثقافية .. وبذلك يكون قد أعطى شعرَ الحب مفهومه الحقيقي البعيد عن تجاوزات إنسانية بكل المعاني المغلوطة .. ويكتفي بالمدلولات الإنسانية الباقية والمؤثرة.
وتأتي الصورة بشكل عفوي عند الشاعر.. وهي تمر على ثقافاته واطلاعاته لتمثل عناصر النص ومشاعر المتأثر دون تعدد مسارات الدلالة فهي من العاطفة إلى العاطفة عبر الأسس التي شملت المعنى واللغة والموسيقى والصوت .. وحققت الوجود الذي يتطلع إليه الشاعر إذ يقول في قصيدته (طفولة):
“وجاء الشتاء حزيناً .. إلينا
و ألبسنا فروة من دموع وغاب.” ص 51 .
ويقول في موضع آخر من القصيدة :
“وصار الهواءُ دخاناً
وحلمي تلاشى
فلم يبقَ منه سوى قمحةٍ
في رَحى الذاكرة.” ص54
فلابد أن ندرك من خلال موهبة جهاد الأحمدية أن الشعرية واحدة ولا تتخطى مكونات اللغة ولا وظائفها وإن تغيير الشكل عبر التاريخ يجب أن يناسب تحولات البيئة .. فالتركيب النصي يعتمد على الانتظام المعنوي للشعر وبداية انطلاقه منذ أن بدأ عبر التاريخ .
ونتابع في نصوص الأحمدية التي لم تقتصر على الحب باتجاه واحد .. فالحب يشمل أسس الانتماء كالأرض والأم .. والتربية وكثير من الجماليات الأخرى.
وهذا نجده بشكل عفوي في البنية التي ارتبطت وحددت وظيفة الرؤية الشعرية وامتلكت كفاءة تعبيرية وجماليات مؤثرة .. وبقدر ما يغتني خيال الشاعر بمفردات الحضارة الإنسانية ومعارفها المتنوعة، تتسع مساحة جمالية الصورة وحركتها لتشتمل على أنسنة الكائنات الجمالية الأخرى.
ويبدو جلياً تمكن الشاعر من مفردات الفن اللغوي التي احتضنتها عاطفته الصادقة ليؤكد أن الحب هو من أهم أولويات الحياة .. فتمكن من تحريك الشتاء عبر العاطفة وأعطاه صورًا وجماليات مبتكرة لربط عاطفته بمحبة أمه وليصل بالمتلقي إلى قيمة الوجدان ورفعة المعنى واللغة التي ظلت مرتبطة بمكونات القيمة لتحولات المشاعر بشكل فني .
يقول في قصيدته (ذكرى):
“من قال أنساها حقول الآس !
من قال انسى طينها
المجبول منه جبين جدي
وجه أمي .. خد عاشقتي
وبعض ملامحي وحواسي “!ص83
وبدت قيمة الانتماء من خلال صورة جبين الجد ووجه الأم وخد الحبيبة ليبدو النص حقلاً دلالياً واسع الطيف يؤدي إلى الإدهاش والحرص على التمسك بقراءة النص وقيمة النصوص الأخرى التي تمتلك ذات المستوى والأسلوب.
syriahomenews أخبار سورية الوطن
