هذه المرة الثالثة التي ينتخب فيها الشعب الأوكراني “أوروبا”، ولا يجني غير استفحال الفساد وتركّز الثروة في يد أوليغارشيي اليمين.
صرح النائب الأول لرئيس لجنة مجلس الدوما للشؤون الدولية فياتشيسلاف نيكونوف، الخميس، أن بدء “العملية العسكرية الروسية سيؤدي بطبيعة الحال إلى نهاية نظام السلطة الحالي في أوكرانيا”، وقال جواباً عن سؤال عما إذا كانت روسيا تسعى لتغيير النظام في أوكرانيا: “بطبيعة الحال، إن النظام الحالي انتهى بالفعل”، قبل أن يلخّص المشهد من زاوية الكرملين: “بشكل عام، أعتقد أن هذا هو أهم حدث خلال 30 عاماً، وربما في آخر 70 عاماً. نحن نستخدم القوة لتأمين المصالح الاستراتيجية لبلدنا لفترة طويلة”.
يختصر هذا التصريح الكثير من البحث والتحليل لطبيعة عمل السياسة الخارجية لموسكو وأدواتها وإمكاناتها بعد العام 1991، ولكن في الجبهة المقابلة، كيف تطوّر المشهد السياسي في أوكرانيا منذ استقلالها عن موسكو “الصديقة”، وصولاً إلى أزمة اليوم التي يختصرها مشهد دخول الدبابات الروسية بالفعل إلى أطراف العاصمة كييف هذا الصباح؟
المحطات السياسية الأوكرانية منذ الاستقلال:
1991 – 1994: العهد الأول
ليونيد كرافشوك، زعيم الحزب الشيوعي الأوكراني خلال المرحلة السوفياتية والحاكم الفعلي للبلاد في مرحلة ما قبل الاستقلال، أصبح في العام 1991 الرئيس الأول لأوكرانيا المستقلة بعدد قياسي من الأصوات.
عرف عهده تراجعاً هائلاً في نفوذ موسكو في أوروبا الشرقية وأوكرانيا بشكل خاص، مقابل تقدّم كبير في استثمارات رأس المال الغربي في القطاعات الإنتاجية والصناعية، وبشكل خاص في مجال الطاقة، ولكنّ سياسته الخارجية المتوازنة والحذرة حافظت على أوكرانيا الناشئة وحالت دون انغماسها بشكل كامل في الهوية الأوروبية مقابل انسلاخها عن محيطها التاريخي وثقافتها الروسية.
1994 – 2004: حلم “الدور أوراسي”
بعد كرافشوك، تمّ انتخاب رئيس وزرائه ليونيد كوشما، عضو الحزب الشيوعي والسياسي البارز، خلفاً له في رئاسة البلاد في العام 1994.
صبّت أصوات المناطق الصناعية والزراعية الشرقية في مصلحته بشكل أساسي، ودعمه “كارتيل” من أصحاب الرساميل الضخمة، هو “مجموعة الدينامو” المحسوب على روسيا.
حاول كوشما أن يصنع لأوكرانيا دوراً سياسياً واقتصادياً كبيراً جامعاً بين الشرق والغرب، عبر إصراره على تقديم هوية أوكرانيا كبلد ذي طابع “آسيوي-أوروبي”. اتهم برعايته الفساد الإداري والاقتصادي في البلاد بشكل كبير، ولا سيما في عمليات خصخصة المؤسسات الحكومية والقطاعات الإنتاجية الأوكرانية.
وعلى الرغم من ذلك، أعيد انتخابه لولاية رئاسية ثانية في العام 1999. وفي فترته الرئاسية، عاد النفوذ الروسي للتغلغل في البلاد بالتوازي مع ازدياد النفوذ الغربي، ولا سيما عبر الشركات الأجنبية والرساميل الأميركية والأوروبية.
“الثورة البرتقالية” 2004 – 2010
في العام 2004، جرت انتخابات رئاسية فاز في دورتها الثانية رئيس الوزراء الأخير في عهد كوشما السياسي فيكتور يانوكوفيتش.
خلال فترة رئاسته مجلس الوزراء، وافق يانوكوفيتش على إرسال بعثة عسكرية أوكرانية للمشاركة في الحرب الأميركية على العراق في العام 2002، وعبّر عن رغبته في توقيع معاهدة شراكة مع أوروبا، ولكنه عارض انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو، وحافظ على علاقات جيدة مع موسكو.
شككت جهات محلية وعالمية ومراقبون دوليون في نزاهة العملية الانتخابية، وكانت قاعدة يانوكوفيتش الشعبية في شرق أوكرانيا، وهي المنطقة التي تعتبر ضعيفة الوزن في تحديد سياسة البلاد مقارنة بالمناطق الأخرى، ولا سيما الغربية القريبة من أوروبا.
قامت القاعدة الشعبية لمنافسه يوتشنكو بتظاهرات ضخمة في لفيف والعاصمة كييف ومقاطعات أخرى، عُرفت “بالثورة البرتقالية”، وأدّت إلى إلغاء المحكمة الدستورية العليا في البلاد نتائج الانتخابات، والدعوة إلى انتخابات جديدة، فاز يوشنكو فيها من الدورة الأولى.
يوتشنكوفيتش الذي كان زعيم المعارضة عُرف بتوجهاته السياسية الموافقة للأهواء الغربية حول هوية أوكرانيا الأوروبية، ولكنّ عهده الذي ازداد فيه تغلغل النفوذ الأوروبي في البلاد، عجز عن تحقيق إصلاح حقيقي لطالما كان المعارضون يعدون الشعب الأوكراني به، واستعرت الخلافات مباشرة داخل الحزب الواحد، ولا سيما مع الشخص الثاني في الحزب ورئيسة الحكومة يوليا تيموشنكو. وقد تم حلّ البرلمان والحكومة أكثر من مرة في عهده وطرد جميع رموز “الثورة البرتقالية” من الحكم.
2010 – 2014 : عودة يانوكوفيتش
خسرت تيموشنكو، التي أصبحت زعيمة المعارضة بعد ابتعاد يوتشنكوفيتش، الانتخابات الرئاسية في العام 2010 لمصلحة المرشح الخاسر في العام 2004 يانوكوفيتش، الذي عاد إلى الحكم بأغلبية شعبية لم يشكك فيها أحد.
قام الرئيس العائد باعتماد رؤية سياسية واضحة، تقوم على مبدأ تعزيز قوة أوكرانيا أمام محيطها، مع الإقرار بضرورة الحفاظ على علاقات مميزة مع موسكو، مبنية على المصالح المشتركة، وضرورة الانفتاح المدروس على الاتحاد الأوروبي.
انقسم الشعب الأوكراني سياسياً بشكل حاد بين توجهين شرقي وغربي. ازدادت حدة الانقسام مع توقيع معاهدة مع روسيا، تقضي باستثمار قاعدة سيفاستوبول في القرم لمصلحة الأسطول الروسي في البحر الأسود لمدة 25 سنة، ثمّ إقدام البرلمان الجديد على سحب طلب البرلمان السابق بالعضوية في حلف الناتو في العام 2012، واتخاذ عدة قرارات تصعيدية ضدّ خيارات المعارضة السياسية المدعومة أوروبياً، من ملاحقة وسجن تيموشنكو بتهمة اختلاس أموال، وصولاً إلى إعلان الرئيس يانوكوفيتش نيته التريث في التوقيع على معاهدة الشراكة الأوكرانية – الأوروبية في العام 2014.
2014 – 2019: الانقلاب على روسيا
تصاعدت وتيرة العمل الجماهيري المعارض في وجه سلطة كييف، التي استعملت القوة لمحاولة استعادة السيطرة على البلاد، ولا سيما العاصمة ومقاطعة لفيف، ما أدى إلى صدامات مع الشرطة والجيش، أوقعت 88 قتيلاً وعشرات الجرحى في صفوف المتظاهرين خلال شهر شباط/فبراير 2014، بحسب إحصاءات المعارضة.
غادر الرئيس العاصمة كييف إلى خاركيف، ومن ثمّ طلب اللجوء إلى موسكو بعد إعلانه فقدان السيطرة على الوضع في البلاد. عقب سقوط الحكم في كييف في يد أعداء موسكو، دخلت القوات الروسية إلى القرم، وأعلنت ضمّها إلى الأراضي الروسية في آذار/مارس 2014.
شكلت المعارضة حكومة مؤقتة أقالت الرئيس من منصبه، ووقعت على معاهدة الشراكة الأوروبية، ودعت إلى انتخابات رئاسية مستعجلة، كما أسقطت كل التهم بحق تيموشنكو وأطلقت سراحها.
ترشّحت تيموشنكو إلى الانتخابات الرئاسية، ولكنّ رجل الأعمال وصاحب النفوذ السياسي الهائل في البلاد بترو بوروتشنكو فاز بفارق كبير عنها في أيار/مايو 2014.
في عهد بوروتشنكو، أصبحت البلاد الأوكرانية مفتوحة على أوروبا بشكل عبّر عنه بشكل بليغ حجم الرساميل الأجنبية التي تغلغلت في شركات البلاد وقطاعاتها الإنتاجية التي عرضتها الحكومة للخصخصة، فأُطلقت يد الأحزاب اليمينية بشكل تام في مختلف مرافق الدولة، حتى في القضاء والجيش والقوى الأمنية، وتركّز الثقل السياسي للبلاد بشكل أكبر في يد المقاطعات الغربية التي أصبحت تتحكم بشكل كبير في قرار كييف السياسي، بينما تمّ تهميش المقاطعات الشرقية سياسياً وتنموياً.
أدّى عهد بوروتشنكو إلى تفاقم الانقسام الحاد بين مكوّنات الشعب الأوكراني وعودة النزعات القومية والفاشستية واليمينية المتشددة إلى العلن، وأصبحت توجهات كييف بالكامل في يد أوروبا وأميركا، بينما عاد النفوذ الروسي إلى المناطق الشرقية، وعادت الجماعات المسلّحة المطالبة باستقلال مقاطعات دونباس ودونيتسك وخاركيف ولوهانسك أو انضمامها إلى روسيا بالظهور، وحظيت بدعم روسي سياسي وعسكري.
2019 – 2022: عهد زيلنسكي
في العام 2019، فاز الممثل الكوميدي المسرحي فولوديمير زيلينسكي برئاسة الجمهورية الأوكرانية، على الرغم من ضعف خلفيته السياسية، ضمن حملة انتخابية شعارها الأوّل مكافحة الفساد وتحقيق السلام مع روسيا.
زيلينسكي، اليميني اليهودي، تمّ ترشيحه من قبل التيار المتشدد في حزب اليمين للاستفادة من شعبيته الكبيرة في البلاد على مستوى استقطاب أصوات الفئات الشابة، وتمّ تمويل حملته الانتخابية بشكل كامل من قبل إيغور كولومويسكي، أحد أثرى رجال الأعمال الأوكرانيين، وصاحب الاحتكارات الضخمة، والمرتبط بقضايا فساد مالي وسياسي.
على الرغم من ذلك، قدّم زيلينسكي نفسه بعد تولّي الحكم رأس حربة في مواجهة أصحاب الاحتكارات والمافيات التي تتحكم من تحت الطاولة في سياسة البلاد، ولكنّ مسيرته الإصلاحية بعد 3 سنوات من رئاسته للبلاد لا تبدو أفضل من سلفيه اليمينيين يوشنكو وبوروشنكو، سواء بالنسبة إلى مكافحة الفساد المستشري أو تحقيق السلام مع روسيا.
ماذا فعل زيلينسكي؟
قام زيلينسكي بعدة خطوات جعلت كلام وزير الخارجية الروسي لافروف اليوم الجمعة عن كونه “كاذباً” أقرب إلى توصيف منه إلى شتيمة.
أعلن زيلينسكي في أول لقاء جمعه ببوتين في العام 2019 في فرنسا أنّ لديه نقاطاً يودّ مراجعتها حول اتفاقية مينسك 2015، التي قضت بتخفيف حدة التوتر بين الجيش الأوكراني والمجموعات المدعومة روسياً شرق أوكرانيا.
كان هذا التصريح مستفزّاً جداً للرئيس الروسي الذي اعتبر أنّ أي مراجعة لجزء من الاتفاقية تعني نسفاً لكلّ الاتفاق. بعد ذلك مباشرة، بدأ الرئيس الجديد تكثيف الكلام عن ضرورة انضمام أوكرانيا إلى الناتو، وأنّ عضوية حلف شمال الأطلسي – الذي وجد بالأساس لمحاربة حلف وارسو، وكان يفترض أن ينتهي دوره بانتهاء الحرب الباردة – يفترض أن لا تستفزّ روسيا، مع العلم أنّ كييف أتمّت جميع الخطوات التي يفترض بها القيام بها رسمياً للانضمام إلى الناتو منذ العام 2008 في عهد يوشنكو. ومنذ ذلك الوقت، كانت الكرة في ملعب حلف الناتو ليوافق على طلبها الانضمام إليه.
لم يكتفِ زيلينسكي بذلك. وعلى أثر استطلاعات للرأي أظهرت تراجع شعبيته وشعبية حزبه مقابل تقدّم منافسيه السياسيين المقربين من روسيا لأسباب عديدة، أهمها عدم وفائه بوعوده الانتخابية، قام بالانتقال إلى مواجهة مباشرة مع روسيا عبر إغلاق 3 محطات تلفزيونية صديقة لموسكو وملاحقة أصحابها، ثمّ ملاحقة مدفيدجوك، أحد كبار رجال الأعمال الأوكرانيين من أصحاب الدور السياسي، والذي تربطه علاقة شخصية شبه عائلية بالرئيس الروسي بوتين، وصولاً إلى فرض الإقامة الجبرية عليه في منزله والتضييق على أعمالهج، بتهمة دعم النفوذ الروسي في أوكرانيا.
ذلك كله جرى في مقابل إطلاق زيلينسكي يد أعداء موسكو في الدولة ومرافقها، وتسليم قرار الجيش لزعيم اليمين المتشدد الأوكراني ياروش، ونسف دور القضاء والسلطات الرقابية، و”تطهير” الدولة الأوكرانية من أي نفوذ لأصدقاء موسكو، وصولاً إلى تثبيت السلطة في قبضة غرفة عمليات الأمن القومي الأوكراني، التي صارت تصدر الأوامر بملاحقة الصحافيين والإعلام ورجال الأعمال كقرارات حالة الطوارئ، في تجاوز لكلّ ما وعد به ناخبيه والشعب الأوكراني.
لم يكن من الممكن بالنسبة إلى موسكو تجاهل كلّ هذا السياق التصعيدي مع روسيا من قبل الرئيس الأوكراني والحزب الأوكراني اليميني الحاكم، والذي وصل في الآونة الأخيرة إلى قيام زيلنسكي بالسخرية من الرئيس الروسي عبر تعليقات وتغريدات تليق أكثر بالممثل الكوميدي زيلينسكي لا برئيس دولة ذات موقع جيوسياسي حساس كأوكرانيا.
“النظام الأوكراني سقط”
هذا السياق يضع النقاط على حروف كلام نائب رئيس مجلس الدوما الروسي نيكونوف أمس، بأنّ “النظام الأوكراني سقط بالفعل”، وكلام وزير الخارجية لافروف اليوم بأن لا مكان للنظام السياسي الحالي في أيّ حلّ للأزمة الأوكرانية، لأنّ السياق الطبيعي الذي كان يتجه إليه زيلينسكي هو ما أصاب سلفيه يوشنكو وبوروتشنكو الذين جاءا بأغلبية الأصوات، ولم يتمكّنا من تحقيق شيء من الوعود الانتخابية العريضة التي كان الشعب ينتظر كفّ يد موسكو عن أوكرانيا لتحقيقها، بحسب سردية اليمين الأوكراني الأوروبي القائمة على مسلّمة أنّ “موسكو هي سبب مآسي أوكرانيا”، فانقلبت قواعدهما الشعبية عليهما، ولم تنتخبهما لدورة ثانية.
على الأرجح أن زيلينسكي كان يتجه، بحسب المنطق الشعبي الأوكراني تاريخياً في المحاسبة عبر الانتخابات، إلى خسارة أي فرصة في دورة رئاسية ثانية. هذه المرة، كان من الصعب على الأحزاب اليمينية تبرير الأمر بكون أسبابه نابعة من اختيار الشخص الخطأ ككلّ مرة، فهذه المرة الثالثة التي ينتخب فيها الشعب الأوكراني “أوروبا”، ولا يجني غير استفحال الفساد وتركّز الثروة في يد أوليغارشيي اليمين الموالين لأوروبا، من دون أي أفق في المحاسبة والتغيير.
ويبدو أنّ سياسة “التصعيد لشدّ العصب” الخطرة التي يعتمدها السياسيون في جميع العالم عندما يفشل أي مسار منطقي لرفع مقبوليتهم لدى الجماهير أوصلت الدبابات الروسية إلى أحياء كييف صباح هذا اليوم، ولعلها مساءً ستكون على أعتاب ساحة ميدان، لتعلن للسياسة الغربية أنّ لكلّ فعلٍ ردّ فعل مقابلاً، وأنّ موسكو ليست عاجزة عن حماية نفسها وأمنها القومي.
(سيرياهوم نيوز-الميادين ٢٧-٢-٢٠٢٢)