آخر الأخبار
الرئيسية » الأخبار المحلية » قصّة العلاقات السورية – التركية [3/3]

قصّة العلاقات السورية – التركية [3/3]

 

رأي مقاربات كمال خلف الطويل

 

ليس الحديث هنا عن الحرب السورية تأريخاً وتقييماً، فمقام ذلك في قادم وقتٍ قريب؛ لكن جملة إضاءات على مسارها، خصّت الدور التركي فيها، لازمةٌ في سياق العرض:أولاً، فلولاه لَما من حرب سورية في الأساس. مثلاً، لو اقتصر الأمر على دور أردني، مرفوق بدور «14 آذار» لبناني، لأمكن للنظام في دمشق تدبّره ولو ببعض عسرة، ولَما وصل الحال إلى حرب طاحنة بكلّ ما حمل الوصف من معنىً. في المقابل، فلو عكسنا الأمر وحذفنا الدورين الأردني واللبناني من الحساب لَما تماثل الحال مع الدورين، ولاشتعلت حربٌ لا مجرّد أعمال عنفٍ أمنيّة السمات. إذاً، فبيضة القبّان في الميزان هي تركيا ودورها.

ثانياً، حار المرء عجباً حينها، وعلى مدار أعوامها، وما فتئ يحار، عمّا دار في عقل إردوغان من دواعٍ حفّزته على اتّخاذ قرار أخرق بكل المقاييس؛ وباعتبار المصلحة التركية المحضة. فمنذ زوال مندريس والحكم التركي ناءٍ عن التدخّل في الشأن السوري؛ اللهم باستثناء تكليفٍ ناتوي للجنرال كنعان إيفرن، عقب انقلابه صيف 1980، بتقديم عونٍ لوجستي لإخوان سوريا في صراعهم المسلّح ضد الأسد. كان جذر التورّع إدراك أصحابه، عسكريين ومدنيين، أن سوريا من نوع زجاج نفيس، إن كسرته ملَكتَه (أي بتّ مسؤولاً عن تخريبه)، ولا فائدة من التسبّب بذلك مع بلد جارٍ، وشريك موروثٍ تاريخيٍ بعجره وبجره. إذاً، بالمنطق، لا يسلك سياسي تركي حكيم، وذو حسٍّ سليم، نهج إردوغان السوري منذ 2011.

وثالثاً، طيب… ما الذي دفع الرجل كي يضرب عرض الحائط بنواميس المنطق، خابطاً خبطَ عشواء؟ حفنة «تهيّؤات» بدت له سانحة:

1- إيحاء «الربيعين» التونسي فالمصري له بأن غنيمة المشرق لم تعد بعيدة عن متناول اليد، ووفق قراءة «عثمانوية» حولاء خلطت بين شراكةٍ إمبراطوريةٍ فوق- قومية دامت أربعة قرون، وخريطة «دول» أفرزتها، وبات تجميعها في كومنولث، وبمحض التراضي لا بحقّ الفتح، سدرة المنتهى.

2- استدعاؤه خطاب أوباما في إسطنبول، في نيسان/أبريل 2009، بما حمله من حدْبٍ على دور تركي بارز في «الإسلامدار». فعاد وتثبّت من راهنية الرغبة، عقب اقتلاع حسني المصري.

3- اعتقاده أن غنيمة الشرق أوّلها دمشق، ومن ثمّ فالمطلوب شراكةٌ وازنةٌ في حكمها بالسلم، فإنْ لم يُصِخ الأسد سمعاً فكلّها، وبالسلاح.

4- رهانه على تفعيل الورقة المذهبية في سوريا بما كفل الإتيان بغالبيتها السنيّة العربية إلى فسطاطه بغير كثير عناء.

5- اتّساق رغبته في «فتح الشام» مع رغبة السعودية، ولأسبابها، وبرغم التنافر البيني حول بدائل كلٍّ منهما السورية.

6- تحرّقه لإقصاء إيران عن «الشام»، وأوّله سوريا، بغية الأخذ من وزنها الإقليمي، أقلّه نصفه، لصالح ذلك التركي.

وما إن اشتعلت شرارة الحدث السوري، أواسط آذار/مارس، حتى ذهب مدير مخابراته، حقان فيدان، في زيارات عدّة إلى دمشق عارضاً «إكسير النجاة» لها: الإخوان شركاء حكمٍ بنسبة الثلث الضامن. حمل المساعد الرئاسي، حسن التوركماني، الجواب السوري النهائي برفض العرض إلى أنقرة، في حزيران/يونيو.

اكتست لهجة إردوغان، خلال الأشهر الخمسة الأُوَل تلك، بنبرةٍ هي مزيجٌ من النصح واللدغ والتحذير. ثم جاءت زيارة وزير خارجيته الصقوري، أحمد داود أوغلو، لدمشق، في آب/أغسطس، ولقاؤه لساعات ستّ مع الأسد، لتشكّل نقطة الانعطاف الكبير، إذ ما إن لمس أن ترديده اللهجة السالفة الذكر لم يجْدِ نفعاً امتشق من حسامه سيف التهديد شبه الصريح، فلم يثمر بدوره. في أيلول/سبتمبر، بات التهديد علنياً وبلسان إردوغان بالذات، فلاح وكأنّ ما أوّله كلام ختامه قتال.

ما أجّج إردوغان إلى حدّ إذهاب العقل كان الفيتو الروسي – الصيني المزدوج على مشروع القرار الأميركي المقدّم لمجلس الأمن حول سوريا، في 4 تشرين 1/أكتوبر. استنتج منه أن غيظ واشنطن لا بدّ صابٌّ في قناة ذهابه إلى الحلبة كي ينازل غريمه الأسد، الأمر الذي شجّعه على إعداد العدّة، وبأمل أنّ الغطاء الأميركي متاحٌ ميدانياً حين اللزوم. احتاج إعداده شرائط الحرب إلى قرابة الشهرين حتى شنّها، عملاً بقرار مجلس الأمن القومي التركي، أواخر تشرين 2/نوفمبر، والذي حدّد مستويين للتدخّل: بالواسطة أولاً، وبالمباشر إنْ لزِم.

في المناط الأوّل، سبقت المخابرات التركية قرار التدخّل، تعبيراً عن وافر يقينها بوشوكه عند أصحابه، عبر قيامها بأمرين:

1- نصبُ مدن خيام في الجنوب التركي، منذ نيسان/أبريل، سعياً لاجتذاب سكان الشمال السوري إليها.

2- تأسيس «الجيش الحرّ»، في 4 تموز/يوليو، من ضباط سوريين، انشقّوا إمّا للسخط أم بالغواية، أم بمزيج من الاثنين.

ثم كانت هناك زمر سلفية في الداخل السوري، ممن خرجت من المحابس، آخر أيار/مايو، في أول عفو واسعٍ كان لإردوغان كبير دورٍ في حضّ الأسد عليه. لم تنتظر تلك الزمر سوى بضعة أسابيع لتحمل السلاح الوافد إليها من شرق لبنان وشماله، بفضل الدور الوازن لـ«14 آذار» اللبناني، وحتى قبْل أن ينضمّ إليه الدوران الأثقل، عبر غرفة عمليات «موك» في مفرق الأردن، ونظيرتها «موم» في كلّس تركيا، مع الخريف.

ثم لحظت المخابرات التركية اغتنام «دولة العراق الإسلامية» (داع) الفوضى الدابّة في سوريا وفرزَها مجاميع من عناصرها، بغلبةٍ سورية، لتُدخلها وتُرسي قاعدة عمليات لهم فيها لا تلبث أن تتّسع. ومن باب التخادم – بالسلب – نظرت بعين العطف إلى نشاطها، وكذا فعلت نظيرتها السعودية بعدها بحين. زاوجت المخابرات التركية عطفها ذاك بتواصلها مع «قاعدة» هندوكوش المركزية، بقيادة أيمن الظواهري، إرساءً لعلاقة علت على التخادم سوية، نسغها التنافع – بالإيجاب – والذي شمل استقدام ألوف من سلفيّي الشيشان وسينكيانغ، في مسعىً لإيذاء روسيا والصين، لدعمهما دمشق سياسياً، وابتغاء غواية واشنطن، وغضّها البصر عن طبيعتهم. فُتحت الحدود التركية على مصاريعها لكلّ من استهوته حملة الدعاية المحرّضة على دمشق، ومستتبعاتها من خدمات لوجستية، فقصَد «الشام» ميدان «جهاد»، تحت يافطة «جبهة النصرة».

ومع الجهادية السلفية تلك، و«جيشٍ حرّ»، تركيّ الانقياد، ضمّ زمراً لا متناهية من سلفيين غير جهاديين، وعموم إسلاميين، لعبت المخابرات التركية على الوتر الإثني بأن حضّت تركمان سوريا على أداء يمين الولاء لها ببرهان الميدان. قبل ذاك، لم يكن قد سمع أحد بأن هناك «مسألة» تركمانية في البلاد.

صارت أهزوجة «المهاجرين والأنصار» الخادعة مبعث سخط مجتمعي حادّ التعاظم بين الترك، ما كاد أن يهدّد حكمه ذاته، سيّما أنّ أعداد «المهاجرين» قد طفحت عن الخمسة ملايين (تحذف أنقرة من إحصاءاتها المعلنة مليونين منهم، كي لا يفور «الأنصار» إلى حدّ الغليان)

 

عند مفصل 2011/2012، كان تقدير الإقليميين أن خير من فلّ حديد الجيش السوري جيشٌ سلفيٌّ مقاتل، حتى وإن اتّخذت شرائح منه لوناً جهادياً كونياً؛ فهي مخاطرةٌ محسوبة، أو هكذا كان الظنّ.

ليس هنا مجال التوسّع في سردية الحرب السورية، لكنّ إضاءةً على محطّات ثلاث نوعية للدور التركي فيها، تفي بغرض التبيين:

1- لقاء إردوغان وأوباما في البيت الأبيض، أواسط أيار/مايو 2013، والذي حفَل بمواجهة ساخنة مردّها إلى استياء المُضيف من شطط الاستخدام المفرط للجهادية السلفية في الصراع من قِبل الزائر. كان في الخلفية دخول «داع» بقضّها وقضيضها الميدان السوري، وتحوّلها، في نيسان/أبريل 2013، إلى «داعش»، بدعوى ريبتها من تتريك و«تقعيد» مُفرَزها «النصروي». تعهّد إردوغان بلجم الكائن العابر للحدود، فأطلق «ربعه» لينازل الوافد، عند مطلع 2014، وانتهى الأمر في ربيعه، وبعد مقتلة ألوف من الطرفين، بانزياح متبادل لهما، فانثالت «داعش» في أرجاء الشرق، مع جيوبٍ متناثرة غربَه، وتخندُق تُبّع الترك في الشمال والغرب.

الأمر الآخر الذي أغاظ أوباما، وقتها، كان إلحاح التركي على مشاركة الأميركي له ميدانياً في تنفيذ مقترحه بغزو أرضي، مسنود جوياً، للشمال السوري، وصولاً إلى حماة، تحت لافتة إقامة منطقة آمنة/منزوعة السلاح، من جهة أخرى. رفَض أوباما الدعوة، مكتفياً ببرنامج وكالة المخابرات المركزية الهادف إلى إسقاط النظام، والذي مضى على انطلاقته قرابة عام.

2- تلاقي إردوغان والملك سلمان، مطلع 2015، على جهد ميداني مشترك بغرض الإجهاز على النظام. إلى حينها، كان هناك من التدافع والتنافس بين الفصائل المرعيّة تركو-قطرياً، وتلك المحسوبة سعودو-إماراتو-أردنياً، ما وازى عداء كلٍّ من الطرفين للنظام، وعكَس بدوره صراع الأجندات البديلة لرعاتهم حول سوريا. ما جمع الشتيتين كان نجاح الجهد الإيراني، رافداً رئيساً للجيش وميليشياته، في درء تهديدٍ جدّي للنظام، على مدى عامي 2013 و 2014، برغم المديات الجغرافية التي وصلتها الفصائل المسلحة على نطاق الخريطة السورية خلالهما. وفعلاً، فقد استطاعت الهجمات المتعدّدة المحاور، ما بين مطلع الربيع وآخر الصيف، إيصال القوات السورية والحليفة إلى نقطة الخطر.

في تقدير موقف لي، تاريخه 29 أيار/مايو، كتبتُ أن الأشهر الثلاثة القادمة فاصلة؛ فإمّا أن تُرفد تلك القوات برافد جديد فارق، سيما جوّياً، وإلّا فالنظام آيل. دخل الدور الروسي على المشهد بعد برهة من مدى تصوّري الزمني، فأفشل المسعى التركي–السعودي.

3- تحوّلات الدور التركي، المتباينة والمتراكبة، ما بين محاولة الانقلاب العسكري على إردوغان، منتصف تموز/يوليو 2016، وتسوية «خفض التصعيد»، أواسط نيسان/أبريل 2018. فمنذ هزيمة قوات «داعش» أمام «وحدات حماية الشعب» (وحش) الكردستانية في عين العرب، في تشرين 1/أكتوبر 2014، وهمُّ إردوغان الأكبر بات نشوء كيان كردستاني انفصالي في الشرق السوري.

(كان اتّفاق إردوغان – أوجلان، في عام 2009، على تسوية كردية في تركيا قد صار في مهبّ الريح، وسبقه تخفّف الجيش السوري من أثقال حماية الشرق بغية التركيز على حماية مقتربات دمشق وتواصلها مع الشمال والساحل، ما صبّ في طاحونة «وحش»).

وعلى خلفية الانفراج، فالوفاق، الروسي – التركي، المعطوف على إنذار الاستخبار الروسي المبكّر لإردوغان عن التحرّك الانقلابي ضدّه، انضافت إليه، روسياً، جائزة وضع اليد على شريحة واسعة من أرياف الشمال السوري (عملية «درع الفرات» آخذةً مناطق الباب وجرابلس ومنبج وأعزاز) على طرفي الفرات، وذلك تلبيةً لعذر اتّقاء تركيا لشرّ «وحش» الكردستاني. دفع إردوغان، قبالة ذلك، تخلّيه عن الشطر الشرقي من مدينة حلب، في كانون 1/ ديسمبر 2016، وإنْ بعد نزالٍ حامي الوطيس بين مُواليه والجيش وحلفائه.

اهتبلت واشنطن فرصة النزال التركي – الكردستاني في الشمال كي تحتلّ ملتقى الحدود السورية – العراقية – الأردنية في «التنف» السورية، في آب/أغسطس 2016، معزِّزة بذلك جهدها الجوي، بعُمر العامين، فوق الشرق السوري، مستهدفةً به دولة «داعش» فيه. ثم مضت أبعد، ما بين خريف 2016 وصيف 2017، لتحتلّ مساحة شاسعة من الشرق السوري، متستّرةً بقوات «وحش» (الآن «قسد»)، وعلى أنقاض تدمير شطر دولة «داعش» السوري بعد أن تمّ تدمير شطره العراقي ما بين خريف 2015 وربيع 2016.

تمثّل الوفاق الروسي – التركي، منذ «الدرع» وعلى مدار أعوامٍ سبعة بعده، في مسارين متوازييَن: «أستانة» للتفاوض السياسي، و«خفض التصعيد» للتعامل الميداني. لم يمنع ذلك الجيش وميليشياته الحليفة من محاولة إضعاف مُوالي الترك في «إدلب الكبرى» في معارك طاحنة دارت ما بين خريف 2017 وشتاء 2018، وأحرز فيها تقدّماً محدوداً. إبّان تلك الفترة، عاد إردوغان ليلحّ على بوتين كي يأذن له بإخراج «وحش» من جيب «عفرين» الناتئ، فأذِنَ، مطالع 2018 (عملية «غصن الزيتون»). قابل إردوغان ذلك، في نيسان/أبريل منه، بالانكفاء عن غوطة دمشق وعن جيوب في أرياف حمص وحماة، وذلك بشفط مُواليه إلى «إدلب الكبرى». وكما كان مطلع 2015 موعد بدء الهجوم الحاسم المشترك صار ربيع 2018 ميعاد ختامه، وبغير نجاح.

ولعامٍ ونصف عام لحق ترتيبات ربيع 2018، انتظر الأسد تقدّماً دعّم موقفه بمزيد، ولكن من دون طائل؛ لا بل ووجد إردوغان وقد انتفع من قرار دونالد ترامب، في تشرين 1/أكتوبر 2019، سحْب قواته من الشرق السوري، بل وبرغم تراجعه عنه تحت ضغط دولته «العميقة»، بأن تمدّدت قواته عمقاً وشرقاً عن خطوط «الدرع». دفع ذلك الأسد إلى محاولة كسر الجمود بالقوة، عند نهاية 2019، ونجحت قواته في استرداد بقعٍ كبيرة من أرياف حمص وحماة وإدلب، على مدار الشهرين الأوّلين من عام 2020، ما دفع إردوغان أن يأمر جيشه بالاشتباك المباشر مع نظيره السوري وحلفائه، نصرةً لمُواليه المتراجعين تحت النار.

تدخّل بوتين وعقد مع إردوغان، بموافقة الأسد، تسوية 5 آذار/مارس منه، والتي بموجبها ارتدّ الجانبان المتحاربان، بعمق 6 كم، عن طرفَيْ أوتوستراد اللاذقية – حلب – القامشلي، بغرض إفساح المجال لفتحه أمام حركة التنقّل والتبادل التجاري. والحال أن تلك التسوية، كسابقتها، تقوقعت في مكانها ولم يرَ إنفاذها النور، ولأعوام أربعة ونيّف إلى تاريخه.

ما الذي جعل الجمود على الموجود، سورياً، ديدن إردوغان؟ وهمُ أن الشمال السوري، رهينةً في يده، ورقةُ مقايضة غالية القيمة لقاء حصّة في الحكم السوري وازنة. وبقناعة أن حضن بيئة الشمال – بمواطنيه والمهاجرين إليه – دافئ بما مكّن من الركون إلى ولائه مستقبلاً، وأن إعادة الإعمار من نصيب تركيا في المقام الأول، وأن مكان مُواليه المسلحين – أو شطرٌ سمين منهم – في مستقرّ جيش نظامي سوري معدّل.

راحت الأوهام تتبخّر من أمامه مع إنشاب الأزمة الاقتصادية أظْفارها في الجسد التركي على مدار الأعوام الستّة الماضية، ولكن بالأخصّ منذ عام 2022. صارت أهزوجة «المهاجرين والأنصار» الخادعة مبعث سخط مجتمعي حادّ التعاظم بين الترك، ما كاد أن يهدّد حكمه ذاته، سيّما أن أعداد «المهاجرين» قد طفحت عن الخمسة ملايين (تحذف أنقرة من إحصاءاتها المعلنة مليونين منهم، كي لا يفور «الأنصار» إلى حدّ الغليان).

زاد الطين بِلّةً تنامي حجم ووزن الكيان الكردستاني، المرعيّ أميركياً، القائم على حدوده في الشرق السوري، وحرصُ الدولة الأميركية «العميقة» على حمايته وصدّ غائلة مستهدفيه بالتقويض. انضافت فوق كلّ ذلك الطبيعة الرثّة لصنوف مُواليه المسلحين في «إدلب الكبرى»، بما عنته من شجارات دموية، وفوضى تسيير، وتحيّن تمرّد على «النصير».

طفح الكأس عند إردوغان، وما انفكّ طافحاً، لكن حاله كحال مَن احتاج إلى عون من صديق، هذا من جهة، ومَن خشي ممّن بمثابة «حليف»، من جهة أخرى. أمّا «الصديق» فقد توفّر منذ حين، أي روسيا، وباتت مهمّتها أيسر من ذي قبْل بفضل النكوص السعودي/الإماراتي عن تمويل «وحش / قسد»، كرمى لأنقرة وتسهيلاً لتسوية تركية – سورية، وكذا بفضل غياب الممانعة الإيرانية (ومنذ صيف 2022). وأمّا «الحليف»، أي الولايات المتحدة، فقد راوحت -وما فتئت- بين سخطها من أن العرّاب روسيّ ومن عسرة بلعها فشلها – وحلفاءها – في إسقاط النظام؛ وبين تقلّصات أوروبية متزايدة «تريد حلّاً» لمشكلة المهاجرين السوريين، الماكثين منهم والمحتملين، وفي أسرع وقت؛ ناهيك أن هناك تياراً عريضاً في السياسية الأميركية، يتوثّب للإمساك بمقاليدها، ممّن لا يرى في وجود قواته في سوريا سوى الهدر.

والحال أن اجتماع الإقليميين مع روسيا – وخلفها الصين، على رعاية انفراج، فوفاقٍ، تركي – سوري يلثم كثيراً من قدرة واشنطن على لجمه، سواءٌ أكان كردياً أم عداه.

طيب، ما أمسُّ ما احتاج إليه كلٌّ من إردوغان والأسد الآن؟ إنقاذ اقتصاديهما المتهاويَيْن؛ ما يعطي أولويةً لفتح الحدود والمعابر أمام حركة الترانزيت والتبادل بين الجانبين، شاملةً فتح أوتوستراد الشمال السوري العرضي. بالتوازي مع تلك الافتتاحية، يجري تعديل اتّفاق «أضنة» كي يزيد عمق «حق المطاردة الساخنة» للقوات التركية في الشمال السوري من 5 كم إلى 15 كم. وبالتوازي أيضاً، صدور عفو عام سوري طوى صفحة الماضي برمّته.

بتمام حزمة الخطوات هذه، تبدأ القوات التركية انسحابها من الأراضي السورية خلال أشهر قليلة، ضمنت بها وخلالها حظر انزياح أحدٍ من مكانه صوب تركيا، ونزع سلاح من لا ينصاع لقرارها بالتسوية، مع ترحيل «الجهاديين» منهم خارج سوريا. بالتزامن، ومع اجتماع أطراف التسوية على تقويض «وحش / قسد»، تسارع الأخيرة إلى اكتشاف أن لا مندوحة أمامها عن أن تفيء إلى كلمةٍ سواء مع المركز، سقفها الأعلى اعتماد اللغة الكردية لغة تعليم ثانية في مناطق الغالبية الكردية فقط. أمّا مبدأ اللامركزية الإدارية – وليس الحكم الذاتي – فهو من لزوم ما لزِم لكامل القطر، لا لبقعة بذاتها منه.

في الأوراق قمّة ثلاثية قريبة في موسكو؛ فهل نشهد، هذه المرّة، مشرق النور والعجائب؟.

 

سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية

x

‎قد يُعجبك أيضاً

سيل تعزيزات أميركية إلى سوريا: واشنطن تتحسّب لـ«المقاومة البرية»

أيهم مرعي   الحسكة | لم تكن هجمات فصائل المقاومة الخمسة ضدّ القواعد الأميركية غير الشرعية في سوريا، خلال شهر آب، وإقرار الأميركيين بسقوط جرحى ...