|دعاء سويدان
«نحن في الشرق الأوسط نحبّ أن نتحدّث عن السياسة، نحبّ أن نجادل. اُنظر فقط إلى الأنبياء الثلاثة، موسى وعيسى ومحمد، كلّهم من هذه المنطقة الصغيرة التي تَخلق مشاكل في كلّ وقت»
حمد بن خليفة آل ثاني، أمير قطر السابق.
«احنا تهاوشنا على الصيدة (سوريا)، وفلتت الصيدة واحنا قاعدين نتهاوش عليها»
حمد بن جاسم، رئيس الوزراء القطري السابق.
في كتابه الشهير الصادر في ثلاثينيات القرن الماضي، «المرض النفسي والسياسة»، يرى عالم الاجتماع الأميركي، هارولد لاسويل، في سياق محاولته استكشاف العلاقة بين علم النفس والسياسة، أن «الحركات السياسية تكتسب حيويتها من إحلال العاطفة الخاصة على الموضوعات العامة»، معتبراً أن «الطموح السياسي والسعي إلى القوّة» يعملان، والحال هذه، «كتعويض للتغلّب على التقدير المتدنّي للذات» (1). قد تصحّ تلك اللمحة، على رغم إمكانية اعتبارها لدى البعض مجرّد «ثرثرة نفسية»، مدخلاً مناسباً، إنْ لم يكن الأكثر مناسَبةً، للحديث عن قطر، الإمارة الخليجية الصغيرة، والتي يكاد هذا الصِغَر يشكّل بالنسبة إليها «عُقدةً»، لا تفتأ تُدبَّج، من أجل فكفكتها، المقالات والكتب والدراسات، ومن بينها مثلاً كتاب «صمود قطر: نموذج في مقاومة الحصار وقوّة الدول الصغيرة»، الصادر عن «مركز الجزيرة للدراسات» عام 2018، والذي يمكن تلخيص روحه كلّها بجملة واحدة من خاتمة فصله الأوّل: «في النهاية، ليست كلّ دولة صغيرة ضعيفة، فقد بيّنت تجربة صمود قطر – في مواجهة “الحصار” الذي فرضتْه عليها السعودية والإمارات والبحرين ومصر في 2017 – أنها صغيرة ولكنّها قوية». خلاصةٌ يَصعب ربّما دحضها، ولكن تَسهل في المقابل إزالة «الماكِياج» عن مقدّماتها المتمثّلة في «التعامل الإيجابي مع حقائق الجغرافيا السياسية، من خلال مُراكمة موارد القوّة الناعمة، وتوظيفها توظيفاً ذكيّاً».
منذ أن كانت الإمارة «مَحلّاً يُقال له “القطر” في جهة الأحساء الشرقية»، أو «قطعة بارزة في البحر في ما بين عُمان والبحرين»، وفق التعريف الوارد لها في العدد 1045 من جريدة «الزوراء» العراقية التي كان يُصدرها الوالي العثماني ما بين عامَي 1869 و1917، فإن «أراضيها كانت محجرة، لا ماء فيها ولا مزارع كالأحساء والقطيف»؛ ولذا، فإن «أهلها، يكادون جميعهم يشتغلون في تجارة صيد السمك واستخراج اللؤلؤ» (2). واللؤلؤ، «السيّد الواحد» الذي «(عشْنا) جميعاً، من أكبرنا إلى أصغرنا، عبيداً له» على حدّ تعبير حاكم قطر الأوّل ومؤسّس أسرة آل ثاني، محمد بن ثاني، لم يكن في أيّ وقت من الأوقات مُلكاً صافياً لأهله، على رغم أن الشعار الجديد للدولة، والذي دُشّن في أيلول الماضي، يُظهر احتفاءً واضحاً بالبحر الذي خَبِر القطريون الغوص فيه والاعتياش من ثرواته، إلى درجة راج معها بينهم المثل الشعبي: «جاور بحر ولا تجاور غني». لكن، لسوء الحظّ، ليست الصورة بتلك الرومانسية الوطنية؛ ذلك أن المشيخة التي تولّت بريطانيا حمايتها في مراحل مختلفة من القرن التاسع عشر، قبل أن تنشأ كإمارة «مستقلّة» تحت حُكم آل ثاني (3)، سرعان ما ارتبطت بالإمبراطورية الآفلة بمعاهدة عام 1916، والتي نصّت في مادّتها الخامسة على تعهُّد الحاكم الثالث، عبد الله بن جاسم آل ثاني، بأن لا يَمنح «أيّ امتيازات أو احتكارات أو مساعدات لأيٍّ كان لصيد اللؤلؤ من دون موافقة الحكومة البريطانية»، في مقابل حصول بلاده على الحماية من غزوات جيرانها، بل وتَمتّعه هو بالحصانة في وجْه مُنافِسيه الداخليين.
يُنقَل عن هذا الأخير، والكلام على ذمّة الراوي في كتاب «قطر، الصغيرُ القبيح… هذا الصديق الذي يريد بنا شرّاً» (Le vilain petit Qatar… Cet ami qui nous veut du mal)، قوله: «أنا قرمط الجديد»؛ والقرامطة، كما يَذكرهم التاريخ، هم أتباع حمدان قرمط، الذي قاد حركة تمرّد مسلّحة ضدّ الدولة العباسية، واستطاع فرْض نفوذه على مناطق واسعة، قبل أن يقيم دولته في شرق شبه الجزيرة، حيث كانت أشهر معاركه، تلك التي خاضها مع أنصاره في مكة، مُهاجِمين الحرم، وخالِعين باب الكعبة، ومقتلِعين الحجر الأسود الذي احتملوه إلى البحرين، واحتفظوا به هناك لِما يزيد عن عشرين عاماً. وسواءً صحّ الكلام المنسوب إلى حمد أم لم يصحّ، فإن الفعل لا يكذّبه، بل هو دائماً ما يأتي لينمّ عن حالة من الطموح الجامح، لا إلى التفوّق على الجيران الأقربين الذين غالباً ما طَبع علاقاتِهم الحسدُ والتنابذ، فحسب، بل وأيضاً إلى التغيير السياسي في البلدان العربية التي كان أسهمَ ازدهار الثروة النفطية في نقْل «عوامل القوّة السياسية والاقتصادية والثقافية» منها، إلى «المجتمعات ذات الأساس البدوي» المتشكّلة حديثاً، والتي تكتّلت لاحقاً في ما بات يُعرَف بـ«نادي الأغنياء» الخليجي – وفي ذلك واحد من عوامل الشقاق في المشرق العربي وفق ما يحدّدها جورج قرم -؛ فضلاً عن تمديد أذرع النفوذ في الدول الغربية، ومن بينها فرنسا التي يفنّد الكتاب الفرنسي المُشار إليه آنفاً، حقيقة التغلغل القطري فيها، حيث جعل «أمّة، هي أيضاً ضمن القوى الكبرى، ترتجف، عندما تقطّب شبه جزيرة صغيرة جدّاً، تكفي شحطة قلم لمحوها عن الخريطة، حاجبَيها» كما يقول المؤلِّفان نيكولا بو وجاك-ماري بورجيه.
الاشتباه ليس عارِضاً في سياسات المشيخة، بل هو متأصّل وثابت
التقت تطلّعات حمد إلى جعْل بلاده «لاعب ارتكاز» في المنطقة والعالم، مع رغبة الولايات المتحدة في الحفاظ على «باب دوّار» من صِنف «الليبرالية الإسلامية»، يتيح لها عند الحاجة العودة إلى خصومها ومُفاوضتهم ومُراوغتهم بل وعقْد الصفقات معهم. بتعبير آخر، استثمرت واشنطن في هوس الدوحة بـ«التفرّد»، والذي تُرجم علاقات متنافرة/ متزامنة في ما بينها وبين الأميركيين وأصدقائهم وأعدائهم وأعداء أعدائهم على السواء – بما لا يستثني طبعاً إسرائيل التي كان لقطر قصَب السبْق في مدّ الجسور معها على رغم كثرة الجعجعة الرافضة للتطبيع -، وذلك من أجل تثبيت «خطّ رجْعة»، لم يبقَ في حقيقة الأمر خطّاً، بل استحال قاعدة هي اليوم مِن بين الأكبر والأهمّ في «الشرق الأوسط» (العُديد بوجودها المادّي ووزنها الرمزي). من هنا، يمكن فهْم القصّة ببساطة إذاً، ومع هذا، يكاد لا يخلو الفضاء أبداً من «أفكار مجهولة المصدر والسياق»، مِن النوع الذي يُجيز التساؤل: «كيف يَخطر في بال قطري أن يتحدّث عن “تحالف” بين دولته وبين الولايات المتحدة الأميركية؟ يَخطر» (5). يَخطر؛ لأن أمراء شبه الجزيرة العربية، فاحشي الثراء، عموماً، يفتقرون إلى فضيلة التواضع، ويعتقدون أن «الدُنيا» ستظلّ مُلك أيديهم على طول الخطّ، على رغم أن شيمتها الثابتة «اللفُّ والدوران»، وأن أحداً لا يستطيع تلافي ضوائقها دائماً.
وإذا كان ذلك ما فعلته الإمارة من أجل موازنة التحريض السعودي – الإماراتي عليها لدى الأميركيين وإعادة قلْب الموقف لصالحها، فهو – على جسامته – لا يضاهي حتماً استماتتها لانتزاع الحق في استضافة «بطولة كأس العالم»، بدءاً من الرشاوى التي اشترت بها أصوات مسؤولي «الفيفا» لدى اشتداد التنافس على البطولة عام 2010، وصولاً إلى «الفُرجة» الخيالية التي تُقيمها اليوم على أراضيها، والتي تَمنّ علينا، من ضمن ما تَمنّ به على «العالم»، بأنها ستكون «لكلّ العرب»، وأيّ «نعمة» تلك! على أن المفارقة أن هذه الاستماتة لم تُعْفِ المشيخة من تلقّي سيْل من التنمّر والازدراء – اللذَين يُواجَهان الآن بحملات ديبلوماسية وإعلامية مثيرة للشفقة -، من الحكومات والمنظّمات نفسها «العزيزة على قلبها»، والتي يتّخذ القطريون من أدنى رفّة جفن لها، حجّةً «مقدّسة» على الجهات التي نصّبوا أنفسهم «مُحاربين» لإصلاحها. والواقع أنه لا غَرْو في «هجمات» تهشيم الدوحة على خلفيّة قصورها عن تلبية جميع بنود «دفتر الشروط» الغربي؛ فالإمارة القطرية ليست في نهاية الأمر إلّا «دغلاً من الأدغال»، بحسب التقسيم «البوريلي» للعالم – نسبةً إلى مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل -، ولو اشتبه عليها الأمر يوماً ما، وظنّت نفسها «حديقة» أو «شبه حديقة».
«الأَخونة» التي شكّلت أحد الجناحَين اللذَين «حلّقت» بهما قطر إقليمياً، وازاها جناحٌ آخر لا يقلّ أهمّية، متمثّلٌ في بناء «إمبراطورية عابرة للأقطار»، تضمّ صحفاً ومجلّات ومحطّات تلفزة وصناديق خيرية ومؤسّسات بحثية وجوائز دولية «على مدّ عيْنكَ والنظر»، في ما يُعدّ واحداً من أبرز تجلّيات السيطرة الخليجية على الحياة السياسية والفكرية في العالم العربي، وانعكاساً لقدرة أمراء شبه الجزيرة على احتكار وسائل الإعلام بتخصيص ميزانيات لها «لا تستطيع أيّ دولة أو أيّ قوّة سياسية مجاراتها» (8). ولذا، فإن التعدّدية هنا، خصوصاً في المجال التلفزيوني، مشوَّهة تماماً، فيما التنافس يُقارب أن يكون غير ذي صلة، وحتى عندما يَحضر، فإنّما بصورة مهلهَلة، يزيدها رخاوةً خليطٌ من علوّ النبرة وتشوّش الفكرة واضطراب الأداء، مثلما يتّضح في بعض القنوات التي أنشأها المحور المُعادي للهيمنة الأميركية لمُنافسة «الجزيرة» وأخواتها. على أن رَجحان الكفّة هذا لصالح الشبكات والوسائط المموَّلة خليجياً، ومن ضِمنها قطرياً، لا يعني، بحال من الأحوال، أن هذه الأخيرة استطاعت أن تنجز المهمّة المُوكلة إليها بنجاح تامّ أو من دون منغّصات، بل إن التحوّلات التي طرأت في السنوات القليلة الفائتة على أداء البعض منها، كما في حالة «الجزيرة»، إنّما ينطق بوضوح بفشل الرهانات التي كانت عقدتْها إبّان ذروة استحالتها «ناطقةً بلسان الإخوان»، فيما بعضها الآخر، المنتمي إلى التيّار «الليبرالي» الذي يقوده عزمي بشارة، لا يزال مقيماً في المربّع صفر، مُغمِضاً عينيه بطريقة رهيبة عن مجمل التغيّرات والانقلابات التي عصفت بالمنطقة، ومعتصِماً بلغة طفولية وشعارات عصبية ونماذجَ غرضُها «إراحة الضمير»، يظنّ أنه من خلالها يستطيع أن يَدخل إلى الحدث «دخولاً صحّياً»، بينما هو لا يني يَخرج منه «خروجاً مَرضياً».
وعلى ذكْر دبي و«نموذجها» الملهم لـ«شقيقاتها» في الخليج، قد تجوز، هنا، الاستعانة بشهادة واحد ممّن «تحوّلوا إلى أصحاب افتتاحيات لاذعة في وسائل إعلام عربية مموَّلة من ممالك النفط»، حيث يتجاهلون «السلطوية المطلقة العنان لأنظمة إقطاعية الطابع ولاقتصاديات الملكيات النفطية، تجاهلاً تامّاً»، كما لو أن «السعودية أو قطر هما ديموقراطيتان متقدّمتان من الأنموذج الإسكندنافي» (10). يقول حازم صاغية، في لحظة بدا فيها بالفعل «على كوكبنا» – الذي يرمي الكاتب جميع المؤمنين بالمقاومة خارجه، مسخّراً مقالاته للتنظير للهزيمة -، متناولاً بالنقد ظاهرة برج دبي: «يلوح هذا العشق للجِدّة الدائمة كأنّه هرب ممّا “نحن فيه”، وضجر عميق يبحث عن علاج لنفسه بلا انقطاع، لأن صاحبه ما إنْ يخلو بنفسه حتى يموت» (11).