لينا بعلبكي
«لقد تجاوز نموذج العولمة الليبرالي الذي صاغه الغرب نفعه، بينما يتزايد زخم التغيير في النظام الاقتصادي العالمي»؛ هذا ما ذهب إليه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في خطابه أمام قمة «بريكس» بنسختها الـ17، والتي انعقدت يومَي السبت والأحد الماضيين في ريو دي جانيرو البرازيلية. وأعلن بوتين، في الخطاب الذي ألقاه عبر الفيديو، أن الناتج المحلي الإجمالي لدول «بريكس» قد بلغ 77 تريليون دولار أميركي، متجاوزاً بذلك إجمالي الناتج المحلي لـ«مجموعة السبع» الغربية (57 تريليون دولار أميركي).
ولم تكد القمة تنهي أعمالها حتى سارع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إلى التحذير، عبر منصته «تروث سوشال» مساء الأحد، من أن «أي دولة تصطف مع سياسات مجموعة بريكس المعادية لأميركا سيتم فرض رسوم جمركية إضافية عليها بنسبة 10%»، مضيفاً أنه «لن تكون هناك استثناءات لهذه السياسة». كذلك، أكد ترامب، في منشور آخر، أنه سيبدأ (الإثنين) البعث بأول دفعة من الرسائل إلى دول عدة في أنحاء العالم، لحضّها إمّا على التوصل إلى اتفاق تجاري أو القبول بفرض رسوم باهظة على سلعها.
إلا أن التهديد الجديد الذي أطلقه ترامب ضد دول «بريكس»، لا يعدّه مراقبون تعبيراً عن سياسة اقتصادية مدروسة، بقدر ما يبدو امتداداً لأسلوبه الشعبوي القائم على التصعيد اللفظي والمناورات الإعلامية، في ما يُسمى «التأثير الرادع»، أي ضرب إرادة الخصوم عبر التصريحات النارية، من دون التورّط في مواجهات مكلفة وغير محسومة النتائج.
ويأتي هذا فيما يبدو أن «سيف» العقوبات الترامبي المسلّط على دول العالم لحملها على تقديم تنازلات، بدأ يفقد فاعليته تدريجياً، وتحديداً بالنظر إلى الرسوم الجمركية الأحادية التي فرضها ترامب مع عودته إلى البيت الأبيض بداية هذا العام، والتي أبدت الدول الأعضاء في «بريكس»، عبر إعلان القمة الختامي، «قلقها» إزاء تصاعدها، معتبرة أن هذه الإجراءات التي «تشوّه» التجارة العالمية عبر تعطيل سلاسل التوريد، «تتعارض» مع قواعد منظمة التجارة العالمية. إذ اضطرّ الرئيس الأميركي إلى التراجع عن تهديداته بشأن الرسوم الجمركية التي فرضها في 2 نيسان الماضي، على واردات 185 دولة، بنسبة أساسية قدرها 10%، مع معدلات أعلى لدول معينة كالاتحاد الأوروبي وبعض السلع من كندا والمكسيك.
وفي 9 نيسان، أُجل تطبيق هذه الرسوم على معظم الدول لمدة 90 يوماً لإتاحة المجال للمفاوضات، باستثناء الصين التي دخل معها في «هدنة تجارية» في 12 أيار، لمدة 90 يوماً أيضاً، في وقت خفّض فيه الرسوم المفروضة على السلع الصينية من 145% إلى 30%، واضطرّ إلى التراجع عن بعض القيود على الصادرات. وقبيل البدء في تطبيق التعرفات الجديدة في التاسع من تموز، وقّع ترامب مرسوماً، الإثنين، يقضي بتأجيل الموعد إلى الأول من آب المقبل.
إلا أنه في الوقت الذي «تنفّست» فيه الأسواق المالية الصعداء بسبب تأجيل تنفيذ الرسوم المشار إليها، أثارت تهديدات ترامب حيال دول «بريكس» «موجة جديدة من الاضطرابات» بحسب صحيفة «تلغراف»، التي نبهت إلى أنه إذا مضى الرئيس الأميركي قدماً في تنفيذ تهديداته، فإن «العواقب على السياسة التجارية الأميركية ونفوذ الولايات المتحدة العالمي قد تكون عميقة، ولكن ليس في الاتجاه الإيجابي الذي يتصوره ترامب».
تهديد ترامب لـ«بريكس» يعكس فشل واشنطن في احتواء صعود المجموعة اقتصادياً وسياسياً
وتوضح الصحيفة أن الرسوم الجديدة على دول «بريكس» وشركائها «لن تُضعف اقتصادَي روسيا وإيران بشكل كبير»، مضيفة أن «تصاعد التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين يصبّ في مصلحة روسيا، التي يمكنها أن تحل محل الإمدادات الأميركية من النفط والغاز الطبيعي المسال والفحم إلى الصين بسهولة».
وإذ تشير الأرقام التي سجّلت في نهاية عام 2024، إلى أن حجم التجارة بين روسيا والصين تجاوز 244.8 مليار دولار، وبين روسيا والهند 70.6 مليار دولار، فإن ذلك يتيح لموسكو «الاعتماد» على التجارة داخل إطار «بريكس» لـ«سدّ فجوات سلاسل الإمداد»، فيما لن يؤدي ارتفاع أسعار السلع الموردة من دول «بريكس» وشركائها، «إلا إلى تسريع أهداف روسيا في زيادة الإنتاج المحلي». أما بالنسبة إلى إيران، التي تستهدفها العقوبات الأميركية، فتقول الصحيفة إن «الرسوم الجديدة سيكون لها تأثير ضئيل في الاقتصاد الإيراني»، لا «بل على العكس، قد تدفع روسيا والصين إلى تعميق علاقاتهما الاقتصادية مع إيران».
وفي ما يتصل بروسيا تحديداً، تشير صحيفة «إزفستيا» الروسية، بالاستناد إلى آراء خبراء، إلى أنه «من المتوقع أن يتباطأ نمو اقتصاد البلاد إلى ما بين 1.5 و1.7% خلال عام 2025»، نتيجة الرسوم الجمركية التي أعلنها ترامب ضد الدول الداعمة لـ«بريكس»؛ لكن، نظراً إلى أن تأثير العقوبات قائم منذ سنوات، وأن حجم التبادل التجاري مع الولايات المتحدة بلغ في عام 2024 نحو 3.5 مليارات دولار فقط، مسجّلاً أدنى مستوى منذ عام 1992، فسيكون «تأثير الرسوم في اقتصاد موسكو محدوداً»، وفقاً أندريه بتروف، مدير العلاقات مع كبار العملاء في شركة «بي كا إس مير إنفستيتسي».
وإلى جانب ذلك، يبرز تركيز السياسة الاقتصادية الروسية، منذ بدء الحرب مع أوكرانيا، على الاستقلالية الإنتاجية، وخفض الاعتماد على الاستيراد، أو الاعتماد على الشركاء الشرقيين في التوريد؛ إذ دعا بوتين، في خطاب حول «حالة الاتحاد» في 29 شباط 2024، إلى خفض نسبة الناتج المحلي الإجمالي المخصّصة للواردات إلى 17% بحلول عام 2030. وفي ظلّ الرسوم الجديدة، في حال فرضها، يرى خبراء روس أن ارتفاع كلفة السلع الأجنبية يمثّل «فرصةً» لتعزيز الإنتاج المحلي، وتحقيق الاكتفاء الاقتصادي، في وقت تبدو فيه روسيا قادرة على إعادة توجيه صادراتها نحو آسيا و«بريكس»، وينبئ ارتفاع قيمة عملتها بنسبة 25%، بـ«مرونة اقتصادية يمكن البناء عليها».
وعلى أي حال، فإن تهديد ترامب لـ«بريكس» يعكس فشل واشنطن في احتواء صعود المجموعة اقتصادياً وسياسياً، بل ويكشف عن عجزها المتزايد وذعرها من تآكل أدوات السيطرة التي بنتها منذ نهاية الحرب الباردة؛ إذ إن قرار ترامب ليس سوى تجلٍ جديد لانهيار نموذج «الأسواق المفتوحة» الذي روّج له الغرب لعقود، بينما أصبحت بلاده التي كانت تُصدّر نموذجها الاقتصادي إلى العالم بوصفه طريقاً نحو التنمية والانفتاح، مصدرَ تهديد لنمو الأسواق الصاعدة، بل حتى لحلفائها، عبر الاتجاه نحو الانغلاق والابتزاز الاقتصادي.
وكانت دول «بريكس» – التي باتت تضمّ، إلى جانب البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، إيران ومصر والإمارات وإثيوبيا وإندونيسيا والسعودية (بصفة مراقب)، رغم تناقضات هذه الدول في ما بينها -، سرّعت مساعيها إلى تقليص الاعتماد على الدولار، وتوسيع اتفاقية الاحتياطي الطارئ (CRA)، وإنشاء شبكات مالية بديلة مثل نظام «SPFS» الروسي و«CIPS» الصيني، بما من شأنه، بحسب ما تعوّل عليه، أن يُضعف هيمنة الدولار ونفوذ نظام «SWIFT» الغربي.
ويُشار، هنا، إلى أن ترامب هدّد، في تشرين الثاني الماضي، دول «بريكس» بفرض رسوم جمركية عقابية بنسبة 100% على صادرات أي دولة تسعى إلى إزاحة الدولار الأميركي، قائلاً: «نطالب هذه الدول بالالتزام بعدم إنشاء عملة جديدة لدول البريكس أو دعم عملة أخرى تحل محل الدولار الأميركي القوي».
أخبار سوريا الوطن١-الأخبار