|هدى رزق
يبدو أنَّ الهم الأكبر للولايات المتحدة هو توحيد الموقف الأوروبي في قمة الناتو، بعد أن تباينت مواقف بلدانه بحسب مصالحها.
في الحساب الاستراتيجيّ، لا يبدو أن دول أوروبا الغربية مستفيدة من إطالة أمد الحرب في أوكرانيا لأسباب اقتصادية، وهي على يقين بأنَّ المادة الخامسة من معاهدة الناتو غير مفيدة لها، فموسكو لن تجتاحها، بل إنَّ التأكيد على المادة الخامسة من معاهدة الناتو تطمئن دول أوروبا الشرقية ودول البلطيق، بعد أن حرَّضتها الولايات المتحدة طويلاً على روسيا، وأقنعتها بأنها ستجتاحها وتضمّها، كما حدث خلال حقبة الاتحاد السوفياتي السابق، بعد زرعها سياسيين موالين لها، لتصبح هذه البلدان قواعد متقدّمة للدفاع عن السياسة الأميركية، وتشكّل صوت واشنطن للتأثير في قرارات الاتحاد الأوروبي.
تنصّ المادة الخامسة من معاهدة الناتو على “أن أي هجوم أو عدوان مسلح ضد طرف منهم (الدول المنضوية في الحلف) يعتبر عدواناً عليهم جميعاً”. وبناء عليه، هم متفقون على حق الدفاع الذاتي عن أنفسهم، المعترف به في المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة. ويبدو أنَّ الهم الأكبر للولايات المتحدة هو توحيد الموقف الأوروبي في قمة الناتو، بعد أن تباينت مواقف بلدانه بحسب مصالحها، وبعد أن لمست تفاوتاً كبيراً في التجاوب بشأن العقوبات من بعض البلدان الأوروبية.
شدَّد بايدن في قمّة الناتو على اعتبار المادة الخامسة واجباً مقدساً يقع على عاتق كلّ عضو من أعضاء الحلف. وقد اجتمع في بولندا بوزيري الدفاع والخارجية الأوكرانيين، بعد أن طلبا تطوير التعاون وتعهدات أمنية إضافية من واشنطن. كان بايدن وصل إلى بولندا في ختام سلسلة من الاجتماعات الدولية في بروكسل، والتقى جنوداً أميركيين متمركزين في جنوب شرقي بولندا.
تريد الولايات المتحدة موقفاً أكثر نشاطاً وملزماً ضد روسيا من جميع حلفاء الناتو. وكانت قد طلبت في الأسابيع الماضية من بولندا تسليم أوكرانيا طائرات “ميغ -29”. بولندا، التي لم ترغب في أن تكون بيدقاً للولايات المتحدة وتبدأ حرباً بين الناتو وروسيا، قالت للولايات المتحدة: “يمكننا نقل الطائرات إلى قاعدة رامشتاين الجوية في ألمانيا، ومنحها لأوكرانيا من هناك، ما دامت ألمانيا ركّزت على التسلح”، وهو أحد التطوّرات التي غيرت بشكل جذري التوازن السياسي في أوروبا خلال الأعوام المئة الماضية. بالطبع، لم يكن هناك جواب من واشنطن، وكان على بايدن أن يظهر للعالم أن الناتو موحد ضد روسيا.
من الواضح أنّ زعماء الناتو، في بيانهم المشترك، ركّزوا على نشر 40 ألف عسكري في جناح الناتو الشرقي، إضافة إلى معدات جوية وبحرية، وأعلنوا تشكيل 4 مجموعات قتالية جديدة في بلغاريا وهنغاريا ورومانيا وسلوفاكيا، متعهدين بـ”تعزيز موقف الناتو الدفاعي”.
وقد ركّز رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون على تعزيز قدرات الحلف في جناحه الشرقي، وأكَّد أن لندن ستمدّ القوات الأوكرانية بـ6 آلاف صاروخ ومساعدات مالية كبيرة، إضافةً إلى تعزيز التواجد العسكري البريطاني في بلغاريا.
كان واضحاً أنَّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يحاول تحييد بلاده التي ستشهد انتخابات رئاسية في شهر نيسان/أبريل المقبل، وهي تعاني ضائقة اقتصادية بعد جائحة كورونا. شدد ماكرون على أن فرنسا لن تكون طرفاً في النزاع الأوكراني، وأنه سيفعل كل ما يلزم لوقف القتال، ودعا إلى أن يكون لدى الشركات الفرنسية الحقّ الكامل في اتخاذ قرارات بشأن مواصلة أنشطتها في روسيا أو تعليقها، مشدداً على أهمية ألا تخالف أنشطة هذه الشركات العقوبات الغربية ضد موسكو، واقترح وضع خطة طوارئ للأمن الغذائي.
أمّا الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، وبعد اجتماعه مع ماكرون، فقد قال إنَّ أنقرة لا تزال على تواصل مع طرفي النزاع، روسيا وأوكرانيا، وإنَّها تناقش كل المبادرات والاقتراحات الرامية إلى إحلال السلام، ولفت إلى أن تركيا، بسبب موقعها الجغرافي وعلاقاتها الخاصّة مع كلٍّ من روسيا وأوكرانيا، تتخذ موقفاً إزاء هذا النزاع، مشيراً إلى ضرورة إحلال سلام راسخ ومستدام في أوكرانيا وفقاً لصيغة مرضية لكييف وموسكو والمجتمع الدولي على حدّ سواء.
لا تؤمن تركيا بأنَّ الناتو سيدافع عنها في حال تعرَّضت لاعتداء، فلديها تجارب مريرة في هذا الشأن، إذ إنها ساعدت أميركا في الحرب الكورية في بداية الخمسينيات، لكنها لم تجد الحماسة نفسها في العام 1974 في المسألة القبرصية، وهي تسعى منذ مدَّةٍ للخروج من كونها الحليف الصّادق الوفيّ للنّاتو، والتَّحوُّل إلى لاعبٍ يستفيد منه، لأنَّ حلفاءها في النَّاتو لم يُبْدوا تعاوناً معها، وهي التي تُواصِلُ تعلُّقها بالحلف من طرفٍ واحدٍ، فلم يكتَفِ حلفاؤها في النَّاتو بتَركِها وحيدةً في مجالاتٍ حيويَّةٍ، كما في سوريا مثلاً، بعد انسحابهم من مسؤوليتهم في دعم الإرهابيين واستجلابهم من أصقاع الأرض، ودعمهم الانقلاب الفاشل في 15 يوليو/تموز 2016، بل ذهبوا أبعد من ذلك.
لذلك، تحاول تركيا الاستفادة من هذه الأزمة، وتراهن على تدفق الأموال الروسية إليها، إلا أنَّ السؤال هو: هل يمكن للولايات المتحدة أن تتغاضى عن أموال الأوليغارشية التي يمكن أن تتدفق إلى تركيا و”إسرائيل” والإمارات العربية المتحدة؟
إنَّ تركيا هي إحدى القوى الإقليمية التي ستستفيد أكثر من الدبلوماسية التي اتَّبعتها حتى الآن. إذا تمكَّن إردوغان من استغلال الإمكانيات الدبلوماسية المتزايدة لتركيا لمصلحة الشعب اقتصادياً، فيمكنه ترجمة ذلك إلى ميزة انتخابية.
ليس هناك ضمانات بأنَّ أوروبا ستصمد بسبب العقوبات المفروضة على روسيا، فقد حذَّر الرئيس الألماني سكان ألمانيا من التبعات الاقتصادية الناجمة عن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، مشيراً إلى أنَّ العقوبات المفروضة على روسيا لن يقتصر تأثيرها على الشركات الروسية فحسب، بل ستطال الشركات الألمانية أيضاً، وسوف تعيش ألمانيا أياماً صعبة لفترة طويلة.
تتعثر المفاوضات الروسية الأوكرانية بسبب المواقف الغربية، ولا سيما المواقف الأميركية، التي تتولى قيادة المحادثات مع موسكو من خلال وزيري الخارجية والدفاع الأوكرانيين. ورغم ادعاء الناتو عدم المشاركة في الحرب، فمن الواضح أنها حرب الناتو وروسيا بالوكالة، فهذا الحلف يسلّح ويدرّب ويرسل الخبراء والمرتزقة والأموال.
يمكن القول إنها حرب عالمية تشارك فيها بريطانيا وأميركا ضد روسيا، وتشرك الأوروبيين، وتدوس على مصالحهم الاقتصادية، من دون تقديم بديل ناجع، فمعظم الدول المصدرة للغاز أعرب عن عدم إمكانية تعويض الغاز والنفط الروسيين في المدى القريب.
حاولت قمة الناتو إظهار الوحدة والتماسك بعد أن قمعت كل الأصوات الإعلامية المعارضة أو الناقلة للحقائق، فأصبح الإعلام موجهاً. ها هو الغرب الذي يدّعي أنه مركز الحرية والديمقراطية يكشف عن وجهه الحقيقي في زمن الأزمة، فلا حقوق إنسان ولا ديمقراطية، فيما أصبحت الحرية نسبية.
أمّا موسكو التي تتقدّم عسكرياً نحو الغرب إلى كييف، فستشكّل سيطرتها عليها، إن حصلت، متغيراً في معادلة العلاقة بين الغرب وأوكرانيا، إذ ستتمكن القوى الغربية من التخلص من ضغوط زيلينسكي لإمداده بالمزيد من الأسلحة الغربية التي يقصفها الجيش الروسي، وستنتهز الفرصة لنقل المزيد من الأسلحة إلى دول شرق أوروبا ونشر المزيد من القوات العسكرية فيها، كخطة ردع استباقي لمرحلة ما بعد سقوط كييف. المتغيّر الأقوى في هذه الحرب هو اتجاه دول ذات ثقل، كألمانيا وبولندا، إلى خطّة تنمية دفاعية استراتيجية سريعة وقصيرة المدى.
وسيحاول حلف الأطلسي ضمّ المزيد من الدول، كالسويد وفنلندا، وستصبح موسكو عملياً على حدود الناتو بشكل معلن، بعد أن كانت أوكرانيا هي مركز الثقل الذي يختبئ وراءه الناتو لقتال موسكو التي حاولت إبعاد هذه الكأس، ولكن عبثاً.
سيرياهوم نيوز3 – الميادين