معين الرفاعي
خلال الأيام الماضية، انعقدت في مدينة تيانجين الصينية قمّة شنغهاي، لتثير تساؤلات جوهرية حول استمرار الأحادية القطبية الأميركية، وسط تقدّم واضح لقوى دولية ناشئة استطاعت تحقيق خطوات ملموسة على الساحة العالمية.
جاءت مبادرات الصين، من دعواتها المتكررة إلى تبنّي نظام عالمي متعدّد الأقطاب، إلى اقتراحاتها الرامية إلى إطلاق بنك تنموي خاص بمنظمة شنغهاي للتعاون، دلالة على تحوّل جاد في موازين القوى، وفق ما تعكسه الدعوة الصريحة لنبذ الهيمنة وتطبيق «تعدّدية حقيقية» كما قال الرئيس الصيني شي جين بينغ: «يجب علينا مواصلة مواقف واضحة ضد الهيمنة وسياسة القوة، وتطبيق تعددية حقيقية في العلاقات الدولية».
لم تعد الولايات المتحدة تحتفظ بالحضور المركزي ذاته. فهي تُعاني اليوم من أزمات مالية داخلية وبنية تحتية متداعية، في حين يشتدّ التنافس من قِبل الصين وروسيا بوصفهما قوى اقتصادية وعسكرية ملموسة لا يُستهان بهما. بل إن السياسات الحمائية التي مولت خطاب ترامب الجمركي أثبتت أن الاقتصادين الأميركي والصيني باتا في تبعية وظيفية متبادلة، حيث يحتاج كل منهما الآخر بقدرٍ متقارب.
استضافت بكين في القمّة أكثر من 20 زعيماً من أبرز دول الجنوب العالمي، بمن فيهم بوتين ومودي وإردوغان، لتأكيد بناء نموذج تعاون جديد خارج نطاق السيطرة الأميركية.
شملت القمّة الإعلان عن خطة لاستحداث بنك تنموي للمنظمة، إضافة إلى تدعيم التعاون في مجالات الطاقة والذكاء الاصطناعي، والحثّ على استخدام العملات المحلية وتخفيف الاعتماد على الدولار الأميركي. كما أعلن شي أن المنظمة باتت تتحمّل «مسؤولية أكبر» في حفظ السلام والاستقرار وتعزيز الازدهار لدولها الأعضاء.
مقابل التراجع الأميركي النسبي ونجاح الصين في استثمار قمّة شنغهاي الأخيرة لتقليص تأثير الدولار وبناء بدائل تنموية حقيقية، يبقى الموقف العربي في الغالب على هامش الخيارات
تعزّز الأرقام البعد العملي لهذه المبادرات: فقد تجاوز حجم التجارة بين الصين وأعضاء المنظمة 512.4 مليار دولار في 2024، بينما بلغت الاستثمارات الصينية أكثر من 84 مليار دولار بحلول تموز/يوليو 2025، مع صفقات سبقت القمّة تجاوزت قيمتها 655.5 مليون دولار. إضافة إلى ذلك، أعلن شي تخصيص 2 مليار يوان مساعدات مجانية هذا العام، وقروضاً بقيمة 10 مليارات يوان عبر اتحاد بنكي داخل المنظمة.
صحيح أنه، رغم هذه المكاسب، تواجه التحالفات الجديدة تحديات داخلية: فالهند، على سبيل المثال، رفضت دعم بعض المبادرات مثل «الحزام والطريق» وامتنعت عن التصويت على بيانات دفاعية مع الصين وروسيا، ما يكشف عن هشاشة التعدّدية حتى ضمن التكتل ذاته. لكن، في المقابل، فشلت إدارة ترامب في الوفاء بأي من وعودها الكبرى خلال ولايته الثانية، وهو الأمر الذي اعترف به ترامب علناً. في مقابلة مع Daily Caller، أقرّ بأن قمّة وقف إطلاق النار مع بوتين كانت «غير فعّالة ديبلوماسياً»، رغم علاقته الجيّدة بموسكو، وأنه لم يُحرز تقدّماً ملموساً. وفي شأن غزة، بدا ترامب غير مكترث، أو حتى يائساً، حين صرّح: «إمّا أن تطلقوا سراح جميع الرهائن الآن، أو أن أمركم انتهى… هذا تحذير نهائي».
ربما يكون النجاح البارز الوحيد الذي سجّله ترامب كان على صعيد العلاقات المالية مع دول الخليج، حيث حصل على تريليونات الدولارات أسهمت فعلياً في تخفيف العجز في الموازنة الأميركية. ورغم ذلك، لم يسجّل، سياسياً، أي اختراق حقيقي، ولم يتبنَّ أي شروط تُذكر بشأن وقف العدوان على غزة أو دعم مبادرة حل الدولتين التي رعتها السعودية وفرنسا.
في المقابل، عبّرت الصين في القمّة عن دعمها الواضح لشعب فلسطين، كاشفة عن موقف داعم لحل الدولتين وموقف ممتد من مبدأ العدل والاستقرار بالمنطقة، ضمن إطار بناء علاقات مع الدول العربية لحل المسائل الساخنة في المنطقة. وقد سبق أن دعت المنظمة إلى وقف فوري للقتال، واحترام قرار حل الدولتين، ضمن مواقف متكررة سُجلت في بياناتها السابقة.
إلا أن المنظومة العربية فشلت، رغم العلاقات الجيّدة التي تجمع بعض العواصم مع الصين وروسيا، في استثمار هذا الدعم في صياغة خيارات مستقلة. فقد اكتفت بإصدار بيانات ترحيبية دون ترجمتها إلى سياسات فعالة، رغم قُدرة هذه القوى على دعم القضية الفلسطينية من منطلق اقتصادي وديبلوماسي.
في ضوء استمرار العدوان على غزة، وتصاعد الخطاب الإسرائيلي حول «إسرائيل الكبرى» وخطط ضم الضفة الغربية، فإنّ غياب موقف أميركي ثابت وافتقار العرب لاستراتيجية سياسية واضحة يجعلان القضية في مهب مشاريع تُدار خارج حدود المنطقة. كثير مما يجري في غزة وفلسطين ليس نتاج تطرف حكومي إسرائيلي فحسب، بل هو امتداد لمخطط أميركي – إسرائيلي يتبنّى الهيمنة على المنطقة ضمن مخططات جيوسياسية واسعة، تفرض تحدّيات حقيقية على المنظومة العربية بأسرها. يهدف هذا المخطط إلى السيطرة على منطقة غرب آسيا، نظراً إلى موقعها الاستراتيجي من جهة، وإلى الثروات الهائلة التي تكتنزها في اليابسة والبحر من جهة ثانية، في إطار حرب استباقية ضد جميع القوى المنافسة.
مقابل التراجع الأميركي النسبي ونجاح الصين في استثمار قمّة شنغهاي الأخيرة لتقليص تأثير الدولار وبناء بدائل تنموية حقيقية، يبقى الموقف العربي في الغالب على هامش الخيارات. ولعل الفرصة الآن مؤاتية لتبنّي رؤية استراتيجية عربية مستندة إلى الحقائق الجديدة، تشمل صياغة رؤية عربية تستفيد من التعدّدية الصاعدة، لا أن تتحوّل إلى لعبة ثانوية على مصالح دولية، وترجمة الدعم الصيني – الروسي إلى مواقف ملموسة سياسياً لصالح المنطقة والقضية الفلسطينية، وعدم الاكتفاء ببيانات بالترحيب، وإطلاق مبادرات اقتصادية وديبلوماسية مشتركة قوية تضغط عبر التحالفات الجديدة لإيقاف العدوان ووقف الحرب في غزة، والاعتراف أن بناء الاستقلال الاستراتيجي يتطلب تعاوناً عربياً داخلياً يكون قادراً على مواجهة استراتيجيات «إسرائيل الكبرى».
بذلك، تتحوّل قمة شنغهاي إلى أكثر من مجرد حدث ديبلوماسي؛ لتصبح نقطة تحوّل لمنظومة عربية واعية يمكن الاستفادة منها لتحقيق ولو الحد الأدنى من الحقوق والاستقلالية العربية.
* باحث وسياسي فلسطيني
أخبار سوريا الوطن١-الأخبار