الرئيسية » الزراعة و البيئة » قنابل سامة.. كيف حوّلت فرنسا صحراء الجزائر إلى مختبرات نووية؟

قنابل سامة.. كيف حوّلت فرنسا صحراء الجزائر إلى مختبرات نووية؟

صباح الثالث عشر من شباط/فبراير عام 1960، أرسل الرئيس الفرنسي شارل ديغول رسالة إلى وزير دفاعه بيار ميسمير يعلن فيها تسجيل بلاده حدثاً تاريخياً مهماً: فرنسا رابع دولة نووية في العالم.

في ذلك اليوم، أطلق ديغول صرخته الاحتفالية: hora. نفذت فرنسا أول تجربة نووية في صحراء الجزائر. دخلت فرنسا مرحلة جديدة أطلقتها عام 1954 بوضع أُسَّ برنامجها النووي الذي شهد إرهاصاته الأولى عام 1935، ولما تزل تعيش أمجاده إلى اليوم، ودخلت الجزائر مرحلة قاتمة بعد تعرضها لأكبر تلوث إشعاعي في تاريخها، ولما تزل تعيش تبعاته إلى اليوم.

اتخذ ديغول قراره بالتأسيس لهذه الخطوة في تشرين الأول/أكتوبر 1945، بعد شهرين من إلقاء الولايات المتحدة الأميركية قنبلتين نوويتين على اليابان، ونفذ بإشراف مباشر منه تجربة بلغت شدة تفجيرها 4 أضعاف تفجير قنبلة هيروشيما. كانت القنبلة النووية الأميركية إيذاناً بانتهاء الحرب العالمية الثانية، فيما كانت القنبلة الفرنسية تصريحاً علنياً بانضمام فرنسا إلى القوى النووية، بعد الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي وبريطانيا.

عندما بدأ البحث عن مواقع لإجراء التجارب النووية، بإيعاز من رئيس الوزراء الفرنسي بيير منديس مطلع 1957، كانت الجزر الفرنسية في المحيطين الهادئ والأطلسي (لاريونيون أو مروروا أو بولينيزيا) الاختيار الأول، ولكن هذا الخيار كانت تشوبه ثغرة لم يكن ممكناً تخطيها بسهولة آنذاك: بُعْد الجزر عن فرنسا حال دون تنفيذ الخطة وفق التصوّر المبنيّ، ونقل المواد النووية والتجهيزات إليها كانت دونه عقبات لوجستية، سببها الحاجة إلى التوقّف في أرض أجنبية، قبل الوصول إلى تلك الجزر. هنا، كان العامل الأمني العائق الذي فرض على الفرنسيين التوجه إلى مكانٍ آخر.

حطت طائرة الجنرال شارل أييري في الجزائر في كانون الثاني/يناير 1957، بحثاً عن الأرض الَّتي تشهد أولى تجارب النووية. استطلع مواقع المستعمرة الفرنسية آنذاك، ثم حسم قراره بأن صحراء تنزروفت الواقعة جنوب البلاد مسرح تلك الاختبارات، بزعم أنها منطقة مهجورة وقاحلة وغير مأهولة.

وبمرسوم صادر في الجريدة الرسمية يوم 10 أيار/مايو 1957، أعلنت فرنسا تخصيص مساحة تقدر بـ108 آلاف كيلومتر مربع، على بعد 40 كلم من مدينة رقان، التي كانت آنذاك تشكل جزءاً من فرنسا ما وراء البحار، لإنشاء مركز عسكري صحراوي.

أُنجزت التحضيرات التقنية، وأتم الجيش الفرنسي كل التجهيزات اللازمة. وفي صباح 13 شباط/فبراير 1960، انفجرت أول قنبلة ذرية من البلوتونيوم، بقوة تتراوح بين 60 و70 كيلوطناً، في أول تجربة أطلقت عليها فرنسا مسمى “اليربوع الأزرق”، ثم تتالت التجارب النووية. شهد ذلك العام تفجير 4 قنابل في الجو، فكان “اليربوع الأخضر”، و”اليربوع الأبيض”، و”اليربوع الأحمر”.

في العام التالي، تسارعت وتيرة برنامج العمل. وفي تشرين الثاني/نوفمبر 1961، شهدت منطقة عين إيكر تفجير أول قنبلة نووية تحت الأرض، تلتها 12 قنبلة باطنية وسط الجبال. هذا العام شهد توقيع اتفاقية إيفيان، وإعلان استقلال الجزائر، ولكن ذلك لم يحد جهود فرنسا في اختباراتها العسكرية، بعدما تضمّنت الاتفاقية بنوداً تسمح لها باستخدام المواقع النووية في الصحراء لفترة تتراوح بين 5 سنوات و20 سنة.

وبعد أكثر من 57 تجربة بين شباط/فبراير 1960 وحزيران/يونيو 1966 في الأرض الجزائرية، أخلى الجيش الفرنسي المواقع العسكرية، وانسحب إلى بلاده، لتكون جزر بولينزيا الفرنسية في المحيط الهادئ المحطة التالية لاستكمال التجارب.

آنذاك، ادعت فرنسا أن اختباراتها آمنة، ولن تترك آثاراً في الصحة والبيئة والتنوع الإيكولوجي، وزعمت أنها طهّرت الأراضي التي استخدمتها من الآثار النووية، ولكن الوقائع التي أثبتتها المعاينة النظرية على الأرض نقضت تصريحاتها.

جانب الفرنسيون الحقيقة حين زعموا أن رقان خالية من مظاهر الحياة. عند تفجير أول قنبلة، كان 6000 نسمة يقنطون المنطقة على أقل تقدير. من كان قريباً من أماكن التفجير، خسر حياته. ومن ظل حياً، حمل آثارها في جسمه، بصورة أمراض رئوية وسرطانات، ثم حملها إلى أولاده، بصورة تشوهات جينية وخلقية. على مدى عقود، توارث الجزائريون الأمراض الناتجة من الإشعاعات والمواد النووية الخطرة والملوثة.

خارج حدود الجزائر، أكد وزير الدفاع الفرنسي بيير ميسمير أن التجارب لا تشكل خطراً على المدن القريبة أو البعيدة، ولكن التحركات التي أعقبت الاختبارات ناقضت تصريحاته. بعد تجربة “اليربوع الأزرق” مباشرة، خرجت تظاهرات وحركات احتجاجية مطالبة بإيقاف هذه الاختبارات. كانت هذه الحادثة قد طالت المناطق المحاذية، ومدناً أبعد، ووصلت إلى السنغال وساحل العاج وبوركينا فاسو والسودان.

وأقرت وزارة الدفاع الفرنسية أن التلوث النووي وصل إلى جنوب إسبانيا أيضاً. وفي مدينة لايبزك، بألمانيا الشرقية آنذاك، على بعد بضع مئات من الكيلومترات عن الصحراء الجزائرية، انطلقت تظاهرات منددة بإجراء تجارب نووية تعرضهم لإشعاعات خطرة.

وكشف تقرير لمجلس الشيوخ الفرنسي أن تجربة “اليربوع الأزرق” السطحية كانت بقوّة 70 كيلوطناً باستعمال البلوتونيوم، وأدت إلى تساقطات إشعاعية على شرق منطقة رقان بصحراء الجزائر، ثمّ دوران سحابة نووية امتدت إلى نجامينا وعواصم أفريقية أخرى، قبل وصولها في اليوم الثامن إلى مدينة الجزائر. وأقر تقرير للمجلس عام 1998 أن الانفجارات الجوية كانت موضع انتقادات متزايدة من الدول الأفريقية المحاذية للصحراء.

أخطر حادث نووي وقع في 2 أيار/مايو 1962، أثناء تفجير قنبلة عرفت باسم “بيريل” في جبل أراك، التي كان ينبغي أن تكون تجربة باطنية، حين انطلقت إلى الغلاف الجوي في المنطقة مادة إشعاعية جراء وجود فتحة تحت الأرض لم تغلق بشكل صحيح، وحدث انفجار هز المدن المحيطة بها، وأحدث شقاً في الجبل تسربت منه نفايات نووية، ما حمل التقنيين إلى إبعاد العاملين عن المنطقة، ودفع المسؤولين الفرنسيين إلى فرار قبل تطهيرهم فوراً من الجرعات الكبيرة.

أنتجت تفجيرات بيريل وعين إيكر غمامة سحابية كبرى تسمى “الشتاء النووي” أو “فطر عيش الغراب”، وعبرت مناطق تامنراست مخترقة الحدود باتجاه ليبيا، ولم تكن التفجيرات النووية الخمسة التي نفذت في موقع تاوريرت تان أترامفي الهواء الطلق، باستعمال مواد انشطارية مثل البلوتونيوم، أقل سوءاً.

آلاف الجزائريين عانوا آثار الإشعاعات النووية في عموم الصحراء الجزائرية، قدرت أعدادهم بـ30 ألفاً، وطاول الخطر أيضاً ضباطاً وجنوداً ومدنيين فرنسيين كانوا حاضرين في تلك المواقع، ولم يكونوا محصنين بشكل كافٍ لمواجهة المخاطر المحدقة بهم، وفق ما كشفت بعض الوثائق التي تعود إلى الأرشيف النووي الفرنسي، وقالت إن مُعدل النظارات الموزَّعة كان نظارة واحدة لكل 40 شخصاً.

وكانت السلطات الفرنسية تُدخِل المشاركين في جهاز لإزالة التلوث، ولكنه في الواقع كان جهازاً لكشف نسبة الإشعاع، واستغلت 195 جندياً فرنسياً في إطار محاكاة هجوم نووي، لدراسة الجوانب الفسيولوجية والبيولوجية والنفسية للسلاح النووي على الجنود في حالة التعرُّض لهجوم، فيما استغلت 150 سجيناً جزائرياً من سجن سيدي بلعباس، بعدما رُبطوا قرب موقع التفجير لدراسة سلوكهم تجاه هذا الكم الكبير من الإشعاعات النووية الذي تعرَّضوا له.

ملف الاستعمار والذاكرة.. طي النسيان!

حتى اليوم، ترفض فرنسا تسليم الخرائط الطوبوغرافية لكشف مواقع دفن النفايات النووية وتطهيرها من المواد المشعة مدفونة تحت الرمال، بعدما أقرت وزارة الجيوش الفرنسية بدفن شاحنات وبعض العتاد العسكري الذي استُخدم في الاختبارات النووية في الصحراء الجزائرية.

وما زالت المطالبات الجزائرية بتسلم كل الوثائق المرتبطة بملف الذاكرة والاستعمار؛ ففي رسالة عشية ذكرى التوقيع على اتفاقيات إيفيان لوقف إطلاق النار بين قيادة الثورة الجزائرية والحكومة الفرنسية في 19 مارس/آذار 1962، أكد الرئيس عبد المجيد تبون العام الماضي أن الجزائر مستمرة في المطالبة بـ”تعويض ضحايا التجارب النووية”، مشدداً على أن بلاده “لن تفرط مطلقاً في حقوقها التاريخية” المرتبطة بالمطالبة باستعادة الأرشيف الوطني المنهوب من فرنسا.

وأكد تبون أنّ جرائم الاستعمار الفرنسي لن تسقط بالتقادم، ودعا إلى “معالجة منصفة” لملف الذاكرة والتاريخ، ومذكراً بمطلب بلاده “استرجاع الأرشيف، واستجلاء مصير الـمفقودين في أثناء حرب التحرير الـمجيدة، وتعويض ضحايا التجارب النووية”.

وطالب رئيس أركان الجيش الجزائري الفريق السعيد شنقريحة بإعادة تأهيل مواقع التجارب النووية الفرنسية القديمة. وخلال استقباله نظيره الفرنسي فرانسوا لوكوانتر في أبريل/نيسان 2022، شدّد على ضرورة تسليم الجزائر الخرائط الطبوغرافية لتحديد مناطق دفن النفايات الملوثة والمشعة أو الكيميائية غير المكتشفة لحد اليوم، وهو ما أعاد المطالبة به تبون مطلع يونيو/حزيران الماضي في مقابلة مع صحيفة “لوبوان” (Le Point) الفرنسية، بدعوته فرنسا إلى تنظيف مواقع التجارب النووية ومعالجة ملف ضحاياها”.

واتهم وزير المجاهدين الطيب زيتوني فرنسا بأنها ما زالت تصر على “إبقاء ملف التجارب النووية في أدراج السرية التامة”، على الرغم من المحاولات العديدة للحقوقيين وجمعيات ضحايا هذه التجارب التي “سعت إلى فتح الأرشيف باعتباره ملكاً للبلدين، على الأقل لتحديد مواقع ومجال التجارب وطاقاتها التفجيرية الحقيقية”.

ومثلما رفضت تسليم أرشيف التجارب النووية، فإنها ترفض التعويض لضحايا التفجيرات، ولا يزال الملف مفتوحاً من خمسينيات القرن الماضي حتى اليوم، رغم بعض الخطوات الفرنسية الرمزية؛ ففي 24 آذار/مارس 2009، تقدمت فرنسا بمشروع قانون لتعويض ضحايا التجارب النووية الفرنسية.

وفي 5 كانون الثاني/يناير 2010، صدر المرسوم الذي يقضي بتعويض المتضررين، ولكنه اشترط على المطالبين بالتعويض أن يكونوا من سكان المنطقة أثناء حدوث التجارب، واعترف بأمراض معينة فقط، وحدد المناطق الجغرافية المعنية ولائحة الأمراض التي يُمكن للمصابين بها المطالبة بتعويضات. في النتيجة، لم يعترف قانون “موران” بالتعويض إلا لمن يثبت وجوده في “المنطقة السوداء”.

وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وصف عام 2017، عندما كان مرشحاً للانتخابات الرئاسية الفرنسية، الحقبة الاستعمارية الفرنسية بـ”الجريمة ضد الإنسانية”، ولكنه رفض الاعتذار. وفي خطوة ثانية، سلمت السلطات الفرنسية الجزائر 33 جمجمة لمقاتلين جزائريين قتلوا خلال الكفاح ضد المستعمر الفرنسي، وكلف ماكرون المؤرخ الفرنسي من أصل جزائري بنجامان ستورا بتدوين تقرير حول الاستعمار وحرب الجزائر (1954-1962) لإخراج العلاقة بين البلدين من الشلل الذي تسببه قضايا الذاكرة العالقة.

63 عاماً على التجارب النووية

اليوم، في الذكرى الـ63 للتجارب النووية الفرنسية في الصحراء الجزائرية، أكد وزير المجاهدين الجزائري العيد ربيقة أنّ هذه التفجيرات “جرائم حرب وقتل مبرمج ضد الشعب الجزائري. يضاف إلى مجازر القتل العشوائي الذي مورس ضده”.

ورأى ربيقة أنّ “هذه التفجيرات استهانت بحياة الإنسان ومستقبل الأجيال في الجزائر”، لأن آثار التفجيرات وإشعاعاتها في رقان (أدرار) وعين إيكر (تمنراست) شملت كل عناصر الطبيعة.

وأضاف ربيقة خلال إشرافه على أشغال لقاء علمي نظم بشأن التفجيرات النووية الاستعمارية في حموديا في رقان أقصى جنوب الجزائر أنّ “هذه المناسبة أصبحت تاريخاً مشؤوماً لدى الجزائريين، وكل سكان الأرض يستبصرون من خلالها الأخطار والمآسي الناجمة عن هذه التفجيرات النووية”.

ودعا ربيقة العلماء و الباحثين المختصين في المجالات المتصلة بالظاهرة على المستويات البيولوجية والأيكولوجية والجينية إلى “تسليط الضوء على هذه المخاطر، للوصول إلى دراسات أعمق، تضمن توفير الجانب العلمي للتكفل بآثار هذه الجريمة الاستعمارية”.

 

سيرياهوم نيوز3 – الميادين

x

‎قد يُعجبك أيضاً

الحرارة إلى ارتفاع والجو ربيعي معتدل

توالي درجات الحرارة ارتفاعها التدريجي لتصبح حول معدلاتها أو أعلى بقليل في أغلب المناطق، ويبقى الجو بارداً نسبياً خلال الليل على المرتفعات الجبلية، نتيجة تأثر ...