|جو غانم
لا تُعتبر القوات الأميركية في الشرق السوريّ قوات احتلال بالمعنى التقليديّ فقط، بل هي عصابات نهبٍ حقيقيّة مسلّحة، تتبع لواحدة من أكبر وأقوى الدول في العالم.
على الرغم من عدم وجود استراتيجيّة واضحة لدى الولايات المتحدة الأميركية، تتعلّق بوجودها كقوّة احتلال في سوريا، أو بمستقبل قواعدها العسكريّة في شرقيّ البلاد، وعلى الرغم من حجّة “محاربة الإرهاب” التي أتت بواشنطن وحلفائها الغربيين إلى تلك الأنحاء، فإنّ وجود قوات التحالف تلك في قاعدة “حقل العمر” النفطيّ تحديداً يكشف بعض الأهداف المهمّة لهذا الاحتلال، وهي ليست أهدافاً جيوسياسية فحسب، بل اقتصاديّة أيضاً، تتعلّق بالأطماع النفطية عموماً، وبالحقل نفسه، وبكميات النفط التي يختزنها ونوعيتها، وموقعه المهم في تلك المنطقة من شرقيّ سوريا التي تتوسّط طرق قارّات ثلاث.
ولعلّ تمسّك واشنطن بقاعدة حقل العمر، واستقدامها التعزيزات العسكريّة بعد كلّ ضربةٍ صاروخيّة تتلقاها تلك القاعدة، يكشفان أهمية الحقل للناهب الأميركيّ المحتلّ.
من جهة مقابلة، تكشف هجمات القوّات المسلّحة في الجيش السوري ومحور المقاومة، والتي تتوالى وتتصاعد منذ بداية هذا العام على الخصوص، أهمية تحرير الحقل وعموم المنطقة الشرقيّة المهمة جدّاً جيوسياسيّاً أيضاً بالنسبة إلى دمشق وحلفائها، فهي ليست أرضاً سوريّة محتلّة يُحتّم الواجب الوطني تحريرها فحسب، بل هي خزّان سوريا من الثروات الطبيعية المسلوبة، في الوقت الذي يعاني الشعب السوريّ من ندرة موارد الطاقة، وهي العقدة المهمة جدّاً التي تتوسّط طرق محور المقاومة نفسه.
لذلك، يأتي الهجوم الصاروخيّ الأخير على القاعدة الأميركية في حقل العمر، يوم الخميس 7 نيسان/أبريل الجاري، حلقة في سلسلة لن تنتهي إلّا بطرد جنود الاحتلال من تلك المنطقة، وهو الأمر الذي لا تريد واشنطن التسليم به حتى اللحظة.
هذه المرّة، لم تنكر قيادة قوات التحالف في قاعدة حقل العمر حدوث الهجوم الصاروخي، ولم تنسب الانفجارات النّاجمة عنه إلى “تدريبات عسكريّة في القاعدة”، كما فعلت أكثر من مرّة هذا العام، بل بدأت البيانات المرتبكة والمتضاربة بالظهور بعد الهجوم مباشرةً، إذ اعترفت واشنطن بإصابة عسكريَّيْن في الهجوم الصاروخي على القاعدة هذا الخميس، لكنّ مصادر محليّة أكّدت وجود 4 إصابات بين الجنود والضباط الأميركيين.
وأفادت المعلومات بأنّ القصف الصاروخيّ استهدف المدينة السكنيّة التابعة للحقل النفطيّ المحتلّ، والتي يقيم فيها الجنود الأميركيون، وهي المرة الثانية التي تتعرّض فيها المدينة السكنية للقصف خلال أسبوعين، في حين هي المرّة السادسة التي تتلقّى فيها تلك القاعدة العسكريّة الأميركيّة حمم القذائف والصواريخ منذ بداية العام الحاليّ، في الوقت الذي تصرّ البيانات الأميركيّة على اعتبار هذا الهجوم الأول منذ 3 أشهر.
وقد تبعَ القصفَ تحليقٌ كثيفٌ لطيران الاحتلال في المنطقة المجاورة. وفي حين أعلنت تقارير إعلاميّة غربيّة، وأخرى عربيّة تدور في الفلك الأميركيّ، استهداف الطيران الأميركيّ موقعين يتبعان للجيش السوريّ وفصائل المقاومة في محيط مدينتي الميادين والقوريّة في ريف دير الزور المجاور للحدود العراقيّة – السوريّة إلى الغرب من نهر الفرات، نفت مصادر محليّة في المنطقة حدوث أيّ قصف من هذا القبيل، وأكّدت أنّ المكان الذي انطلقت منه الصواريخ باتجاه القاعدة الأميركية لا يزال غير معروف لقوات الاحتلال، كما تأكّد حدوث انفجارين قويّين في محيط القاعدة، تلتهما حركة حثيثة وملحوظة لسيارات الإسعاف.
وكما في كلّ مرّة تتعرض فيها قواعد الاحتلال الأميركيّ في الشرق السوري لهجمات صاروخية أو بالطائرات المسيّرة، فإنّ بيانات واشنطن وأداتها “قسد” لا تخرج في نصّها عن الصيغة المعتادة، حيث اتّهام “ميليشيات مدعومة من إيران” بتنفيذ الهجمات، من دون أنْ تسمّي لمرّة واحدة، فصيلاً واحداً من فصائل المقاومة تلك، أو أنْ تشير إلى مسؤوليّة وحدات الجيش العربي السوريّ العاملة على الضفة الأخرى من النّهر.
واللافت أنّ ارتباك قيادة قوات التحالف في تلك المنطقة بلغ حدّ عدم الردّ على أيٍّ من تلك الهجمات منذ العام الماضي، إذ تخشى واشنطن التصعيد في الشرق السوريّ، لأنها تدرك جيّداً أنّ أيّ تصعيد لن يتوقف قبل خروجها من هناك، وخصوصاً أنّ دمشق وقيادة عمليات محور المقاومة أعلنت غير مرّة أنّ مقاومة الاحتلال الأميركي سوف تتصاعد، ولن تتوقف حتى التحرير، بل إنّ واشنطن استبقت الأحداث في بداية العام 2021، لدى إصدارها تقريرها الاستخباريّ السنوي، إذ توقّعت أنْ تتعرّض قواعدها وقواتها العاملة في الشرق السوريّ لهجمات “مجهولة المصدر”. ومن الواضح أنّ هذه الصيغة الغريبة لا تزال الأفضل والأكثر أماناً بالنسبة إليها.
منذ بداية العام الحاليّ، تعرّضت قواعد الاحتلال الأميركيّ في الشرق السوريّ لهجمات عديدة بالصواريخ والقذائف والطائرات المسيّرة. وتتوالى عمليات اعتراض الدوريات والقوافل الأميركية من قبل حواجز الجيش العربي السوريّ العاملة في أرياف الحسكة والقامشليّ، ومنعها من دخول بعض القرى والمناطق.
ولعلّ قاعدتي “حقل العمر” ومعمل الغاز “كونيكو” كانتا الأكثر تعرّضاً للهجمات، نظراً إلى وقوعهما في مناطق قريبة من وجود وحدات الجيش السوريّ وفصائل المقاومة ونشاطها. وقد أدّت تلك الهجمات غير مرّة إلى اشتباكات مع ميليشيا “قسد” الكردية التي ترعاها واشنطن وتُشغّلها في حراسة حقول النفط التي ينهبها الاحتلال الأميركيّ.
ونظراً إلى الأهمية الكبرى التي يحظى بها حقل العمر النفطيّ، فقد كان دائماً واحداً من أهمّ الأهداف التي تنافست عليها الميليشيات والجماعات الإرهابيّة المسلّحة وقوى الاحتلال منذ العام 2011، إذ سعت ميليشيا “الجيش السوري الحرّ” إلى السيطرة على الحقل، وتمكّنت من ذلك في شهر تشرين الثاني/نوفمبر من العام 2013.
وبعد عام من ذلك التاريخ، سيطر تنظيم “داعش” الإرهابيّ على الحقل، ليبقى فيه حتى نهاية شهر تشرين الأول/أكتوبر من العام 2017، إذ تمكنت ميليشيا “قسد” من السيطرة على الحقل بدعم عسكريّ أميركيّ، ليتحوّل إلى قاعدة للتحالف العسكريّ الغربي الذي تقوده واشنطن في شرقيّ سوريا.
وتُعتبر قاعدة “حقل العمر” واحدة من أهمّ وأكبر قواعد الاحتلال الأميركيّ في الشرق السوريّ، فهي مركز عمليّات رئيسيّ لقوات التحالف، يضمّ قوات أميركية وفرنسية وبريطانيّة، وفيه مهبط للطائرات المسيّرة والمروحيّة، تشغله أكثر من 12 مروحيّة قتالية، وعدد غير محدد من الطائرات المسيّرة، كما يضم معتقلاً تديره تلك القوات وتحتفظ فيه بعشرات السجناء من تنظيم “داعش” الإرهابيّ، لاستخدامهم وقت الحاجة في منطقة غربيّ الفرات والبادية، في وجه قوات الجيش العربي السوري وقوى المقاومة العاملة إلى جانبه.
كذلك الأمر مع قاعدة “حقل كونيكو”، التي تحوي مراكز تدريب تتبع للتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركيّة، ومهبط طائرات، ومنظومة صواريخ “باتريوت” حديثة، وعشرات عربات “البرادلي” الحديثة أيضاً، وهي لا تبعد أكثر من كيلومترين فقط من مراكز وحدات الجيش العربي السوري العاملة في بلدتي خشام ومراط المحرّرتين.
وقد تعرّضت قاعدة العمر للتوسيع أكثر من مرة منذ بداية العام الماضي، إذ كانت قوات الاحتلال تستقدم معدّات وأفراداً وخبراء جدداً بعد كل هجوم. الأمر ذاته حصل هذه الجمعة بعد هجوم يوم الخميس، إذ وفدت التعزيزات العسكريّة إلى القاعدة منذ الصباح الباكر.
لا تُعتبر القوات الأميركية في الشرق السوريّ قوات احتلال بالمعنى التقليديّ فقط، بل هي عصابات نهبٍ حقيقيّة مسلّحة، تتبع لواحدة من أكبر وأقوى الدول في العالم، قرّرت أنّها قادمة لـ”قتال التنظيمات الإرهابيّة”، وأنّ هذا الأمر لا يتأتّى سوى حول فوّهات آبار النفط السوريّ.
وفي الوقت الذي تستخدم هذه القوات مجاميع الإرهاب من تنظيم “داعش” وغيره، وتؤمّن لها كل مساعدة لوجستية ممكنة لقتال الجيش السوري وقوى المقاومة في البادية والشرق السوريّ وغربيّ العراق، تقوم قوات الولايات المتحدة بعمليات سرقة موصوفة ومنظّمة للنفط السوري في تلك المناطق، بمساعدة أداتها “قسد” التي تؤمّن حراسة الآبار والقواعد، وتتورّط بدورها في اشتباكات ضد قوى الدولة السورية ومؤسساتها بالنيابة عن واشنطن، كما حدث في بداية الشهر الماضي، عندما منعت قوات الجيش العربيّ السوريّ دورية أميركية من دخول قرية “غوزليّة” في ريف منطقة “تلّ تمر”، فسارعت ميليشيا “قسد” إلى استهداف الموقع السوريّ، ما أدى إلى سقوط شهيدين من الجيش الذي ردّ بقوة على مصادر النيران، موقعاً قتيلين في صفوف “قسد”.
يأتي استهداف قاعدة حقل العمر ضمن خطّة استراتيجية ينفّذها محور المقاومة في سوريا والعراق، تهدف إلى الضغط العسكريّ المتواصل على قواعد الاحتلال لدفعه إلى واحد من أمرين، إمّا الانسحاب العاجل من البلاد وترك أدواته خلفه، لتتعامل معها الدولة السورية وقوى محور المقاومة كما ينبغي، وإما اختيار الردّ على الهجمات والتصعيد، وهو الأمر الذي سيؤدّي إلى انسحاب أميركيّ مكلفٍ جدّاً في نظر دمشق وقوى المقاومة، فموازين القوى في سوريا والمنطقة باتت تميل بشكل وازن نحو مصلحة محور المقاومة، وخصوصاً أنّ أيّ تصعيدٍ عسكريّ في سوريا تحديداً، ستكون موسكو في قلبه حتماً، وستتحوّل الساحة بشكل أكبر إلى ميدان مواجهة بين المحورين، وهو ما تخشاه واشنطن، العاجزة عن الردّ على فصائل المقاومة العاملة على ضفة الفرات وحدها، وخصوصاً أيضاً أنّ الغرب، وعلى رأسه واشنطن، كشف عن ضعف عسكريّ واقتصاديّ واضح في الصراع أمام روسيا (ومعها الصين)، كما استنفد جلّ أدوات عدائه المحموم لروسيا في أوكرانيا.
لذلك، تكون سوريا ساحةً موضوعية لتصعيد الصراع مع الولايات المتحدة وضربها في مقتلٍ في هذه المنطقة، الأمر الذي نستبعد أنْ تلجأ إليه واشنطن، لأنها تدرك نتائجه بناءً على تطوّر الأحداث في المنطقة والعالم.
ولذلك، يمكن استشراف الموقف اتّكاءً على نشاط قوى محور المقاومة في سوريا والعراق، وهو نشاط يأخذ منحى التدحرج نحو عمليات أكثف وأدقّ في المرحلة المنظورة المقبلة، ولن يكون مستغرباً أو مفاجئاً أبداً أن تعلن الولايات المتحدة انسحابها من الشرق السوريّ مع نهاية هذا العالم أو مع بدايات العام القادم.
في سوريا، وفي الوقت الذي باتت عمليات المقاومة تتصاعد وتتزامن بشكل لافتٍ على امتداد الأرض العربية المحتلة، لا فرق بين عمليّة فدائيّة عبقريّة في يافا المحتلّة، وعملية صاروخيّة بطوليّة في حقل العمر المحتلّ، فقد احتفل السوريوّن بعمليّة الفدائيّ الفلسطينيّ الشهيد رعد خازم، الذي عرّى القاعدة العسكريّة الإمبريالية “إسرائيل” بقادتها وجنودها ومستوطنيها، كما احتفلوا تماماً بالصواريخ المباركة التي أحرقت الأرض حول ناهبي ثرواتهم في قاعدة الاحتلال الأميركي في ريف دير الزور، وهلّلوا للطائرات المسيّرة التي أغارت في اليوم ذاته أيضاً على قاعدة “عين الأسد” الأميركية في العراق، فالعدوّ واحد، والناهب واحد، والهدف من المقاومة واحد، بل إنّ التخطيط لكلّ عمليات المقاومة في المنطقة العربيّة يخرج من غرفة عمليات واحدة، في رأي الكثير من السوريين وأهل المقاومة في الإقليم؛ هؤلاء الذين باتوا مقتنعين بأنّ تحقيق التحرير والاستقلال السياسيّ والاقتصاديّ والنهضة الحضارية التي يستحقّونها لا يمكن أنْ يتأتّى بغير المقاومة، وأننا بتنا في قلب هذا العصر الجديد؛ عصر انتصار أصحاب الأرض وتغيير وجه التاريخ.
سيرياهوم نيوز3 – الميادين