| صادق القضماني
يرتكز أي مشروع احتلالي، ليضمن استمراره، على تحصين ذاته عسكرياً، واقتصادياً، وإعلامياً، إضافة إلى إظهار عامل التفوّق كذهنيّة تمييزٍ لسكانه المستوطنين، علاوة على خلق طابور خامس وأدوات خاضعة له من السكان الأصليين لتعزيز التبعية له وإشغالهم في قضايا حياتية هامشية. يؤدي الاحتلال الإسرائيلي، بحِرفية، دوراً إعلامياً، يعتمد البروباغاندا، لإضعاف أي نضال محق، ولإظهار ذاته بصورة لطيفة، يتم التسويق لها من خلال الخدمات، والمشهد الديموقراطي العام بمشاركة السكان الخاضعين للاحتلال كمواطنين لهم حقوق وواجبات، وذلك لاستثمارهم أمام الرأي العام العالمي، ولاستخدامهم في مشروعه الاستراتيجي في المنطقة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو «هل حقق المحتل هذا الهدف»؟
فشل الكيان في هذا مع غالبية السكان الأصليين، ونجح في زرع أدوات من العملاء والطابور الخامس. وهنا كأن نابوليون بونابرت وحديثه عن أدواته في الميدان ضد قضيتهم حاضر وهو يقول: «مَثَلُ الذي خان وطنه وباع بلاده كمثل الذي يسرق من مال أبيه ليطعم اللصوص، فلا أبوه يسامحه ولا اللص يكافئه».
في لحظة فارقة، كعبرة يجب تعلّمها من تاريخ كل منطقة احتُلّت، إن ذهنية المحتل قد تصل إلى مرحلة يستنفد فيها كل خدمات الأدوات وطابوره الخامس، وتغدو مصالحه الاستراتيجية متناقضة مع مصالح أعوانه وعملائه، فيبرم تسويات أو ينسحب خاسراً، أو يتقهقر صاغراً، ليترك هؤلاء في مواجهة مصيرهم بلا حماية. لذلك، يلجأ العملاء إلى تصعيد وقاحتهم، فيستثمرون الزمن لتشويه مجتمعهم من خلال تعميم ظواهر هي في الحقيقة غير مؤثرة ينشرونها كأنها سلوك الغالبية. هؤلاء لا يردعهم ضمير قد باعوه، أدوات ليس لهم من ماض يشفع لهم، ولا مستقبل يتقبّلهم، ولا مصلحة مشغّليهم تستوعبهم. وخير مثال على ذلك ما حدث في جنوب لبنان وأفغانستان بعد انسحاب قوات المحتل من الأرض. أمّا في الجولان العربي السوري، ومناطق فلسطينيي الـ 48، فإن الواقع يختلف باختلاف استراتيجية الاحتلال، إلا أن الأدوات لا تختلف بدورها، إذ إن الكيان الصهيوني يعيش في تناقضين أساسيين:
الثاني، الفوبيا الوجودية، فكل عناصر القوة وصلت إلى أعلى نتائجها في خلال العقود الثلاثة الأولى، لتتراجع، حتى باتت هذه العناصر غير مجدية في معادلة القلق الوجودي الذي يتعزز في وعي أفراد الاحتلال. لقد تطوّر محور المقاومة عسكرياً ليصل إلى مرحلة يستطيع فيها وضع كيان العدو أمام دمار مزلزل في حرب إقليمية كبرى. كما تعمّقت الفوبيا من خلال وعي وسلوك السكان الأصليين، أصحاب الأرض والحق، الذين يصرّون على عدم تكرار تجربة الهنود الحمر بالذوبان في مؤسسات من اغتصب أرضهم بشكل كامل، لنشهد حكمة عميقة وجودية للسكان الأصليين بالاستفادة المحقة من جميع وسائل البقاء تحت منطق الحق الذي يفرضه الواقع، والانتفاض كل حين تحت راية الهوية الأصلية التي تعبّر عن كرامتهم وتاريخهم، لتخلق صراعاً عميقاً بفرض الأمر الواقع الذي بات قادة الكيان الصهيوني ينظرون إليه كخطر استراتيجي على استمرارهم تحت دور الضحية لتبرير احتلالهم دينياً وتاريخياً.
وعليه، فإن الكيان الصهيوني يتخبّط في طرح الحلول عبر التصعيد من تهديداته الإجرامية، ليثبت ميزان الردع والقوة، وليضمن أمن أفراده ويعطي حقنة مخدرة لأعوانه، لكنه لا يبادر تحت منطق القدرة إلى التنفيذ. فانتصار تموز، وصمود غزة، وانتفاضة الضفة والقدس، تعزز بعث روح النضال داخل مناطق الـ 48، والجولان. فتجعل العدو يتراجع تكتيكياً ليطرح بلسان معسول بحثه عن أفضل العلاقات مع محيطه العربي، ويسبقها تطبيع مع دول تجاهر في أنها ضمن مشروع السلام الاقتصادي. يقف عند قلق أخطر من تنامي النضال الوجودي داخل فلسطين، ليرى شعباً عربياً يزيد تعداده على ثلاثمئة وخمسين مليون نسمة، هم من يشكلون الفوبيا الوجودية الاستراتيجية مقابل نجاح ما يخطط له في المنطقة. يقع حينها عاجزاً أمام الحرب والسلم في النتائج التي ستعود سهماً قاتلاً يقلقه. فنراه بالشكل والمضمون ذاتهما في ممارساته اليومية، ما يجعل من مخططاته فاشلة، وتوضع أدواته في «خانة اليك» أمام مجتمعاتهم. ومع تراكم الوعي، سينهارون عند أي غضب عام عنوانه وبوصلته حق الشعب الفلسطيني في أرضه الكاملة.
السلام العبثي بات أساسه التطبيع أولاً، بمعنى فضح الأدوات وجعلهم رهينة لسياسات الكيان، تحت ذهنية أن يوضع هؤلاء الحكام تحت فوبيا عداء شعوبهم لهم، وخلق عدو وهمي من نسيجهم الديني لدولة جارة. فيكون السلام العبثي سيطرة وانتشاراً اقتصادياً وعسكرياً وأمنياً مع استحداث ساحة معركة بعيدة عن ساحتهم في فلسطين المحتلة.
المعادلة واضحة، لكنها تنفّذ من كيان مهزوز يبحث عن إطالة عمره، وليس ككيان قوي قادر على فرض شروطه في المنطقة أمام محور المقاومة. والمستجدات الجديدة بعد حرب روسيا وأوكرانيا، والتوتر على حدود الصين، وتعاظم قوة إيران وانتصارات الجيش العربي السوري، تجعل الكيان كمن يحفر قبره بيده. فهو انطلق من ذهنية البحث عن استمرار بقائه، فكيف سيستطيع الدفاع عن دول وأنظمة هي ستصبح هدفاً لشعوبها في لحظة فارقة مستقبلية، لينقلب كل هؤلاء أمام شعوبهم باحثين عن استئصال السرطان الذي يعيد صياغة المنطقة باستقرار وازدهار. باتت النظريات الإسرائيلية تشكّل أزمة وفوبيا وجودية في الاتجاهين بين الحرب والسلم، لأن ذهنية المستعمر أغفلت أن وجودها مرهون بموافقة الشعب الأصيل صاحب القضية المتجذر في أرضه وموقفه.