فراس عزيز ديب
هكذا تُفتتح اليوم في العاصمةِ القطرية الدوحة بطولة كأس العالم لكرة القدم، هذهِ البطولة كانَت ولا تزال وستبقى مثارَ جدلٍ لن ينتهي بانتهائِها كيفَ لا وهي كذلك منذُ اللحظة التي ذرفَ فيها الكثير من المواطنين العرب من المحيطِ إلى الخليج دموعَ الفرح لحظةَ إعلان الرئيس السابق للفيفا جوزيف بلاتر اختيار قطر لتنظيم هذا الحدث، يومها كان الحس العروبي في أوجِ عطائِه وكان التضامن العربي رغم الانتكاسات المتكررة، في وضعٍ مريح، لكن لم يخطُر في بالِ كل من ذرفَ تلكَ الدموع يومها، بأن الثمن سيكون غالياً، كيفَ لا وروح بريئة واحدة أُزهقت بتواطؤٍ بين المشيخةِ و«جزيرتها» ببدعةِ ربيع الدم العربي تساوي الدنيا بما فيها.
اليوم مساءً، سنرى كيف تعتزِل القيم الرياضية التي تربينا عليها، عندَما تتحدث لغة المال، اليوم سيرقصُ العالم على جثثِ من قضَوا كثمنٍ مباشر أو غيرِ مباشر، لتنظيمِ هذا الحدث، وسيرتشفُ أوغاد الفساد في هذا العالم الساقط، نُخبَ الدماء التي أُهدرت، ثم يطربوننا بتصريحاتٍ كدنا نجهشُ لأجلِها بالبكاء عندما يذكروننا بأن احتساء الجعة داخل الملاعب حرام، لكن وماذا عن احتساءِ براميل الدم في حفلات الإرهاب الشيطانية التي رعتها مشيخة الإجرام؟! ربما وصلَنا الجواب مسبقاً، قالهُ شيخ فتنتهم غير المأسوف عليه يوسف القرضاوي يوماً: «لا ضيرَ بأن يموت الثلث ليحيا الثلثان»، هنا فقط نفهم ما هي الأعمدة والأساسات التي ارتكزت إليها منشآت البطولة!
نجحت المشيخة بتسويقِ نفسها بالطريقةِ الأمثل، تحديداً بعد انكشافِ ملفات الفساد التي لا يبدو بأنها ستُغلق للأبد، اليوم وبعدَ ما يسميهِ الإعلام المُموَّل قطرياً بكل اللغات «حملة تستهدف استضافة بلد عربي مسلم لهذا الحدث»، نجحت قطر في جعلِ السجال حولَ الحدث مرتبطاً بالمعركة التقليدية بين العرب والغرب، أو بين الإسلام والإسلاموفوبيا، ربما أن المعركة الأولى فشلت فيها تحديداً بعد الدور القطري الذي بات مكشوفاً في دعم الجماعات الإرهابية، فاضطرت للانكفاءِ نحو الحل الأسهل، الدين، وهو ما جعلها تحقق انتصارات مثالية في الحالة الشعبية جندت لأجله آلاف المواقع الإلكترونية التي تعمل ليلَ نهار وبكل اللغات لتثبت أن استهداف استضافةِ قطر للبطولة هو استهداف للإسلام المعتدل والمُنفتح على جميع الثقافات، باتت قطر الناطق الرسمي باسم المسلمين وهي التي ستغير وجهة النظر الغربية تجاه الإسلام.
بالسياق ذاته كان لافتاً بأن تقريراً بثته قناتهم بالأمس تحدثَ عن الربط المنطقي، من وجهةِ نظر مُعد التقرير، بين جهوزية أي دولةٍ لاستضافةِ حدثٍ بهذهِ الأهمية وتنامي دورها على الصعيد الدولي، ربما هو نوم في العسل لهُ مبرراته، وربما فاتَ معد التقرير الحديث عن الدور السياسي الذي تلعبهُ اليوم دول كالأورغواي وتشيلي وحتى إيطاليا وفرنسا واليابان على صعيد السياسة الدولية، هذا الربط هو صورة لعقد النقص التي تحاول المشيخة تغطيتها.
لكن في الجهة المقابلة هناك وجهة نظر لابد من الالتفاتِ إليها تُخرج فكرة استضافة البطولة من السياسة، بمعزل إن كان هذا الأمر ممكناً أم لا، دعونا نضع كل هذا جانباً لنطرحَ السؤال التالي:
ألا يستحق ما وصلت إليه قطر وما تم إنجازهُ خلال هذه السنوات، إلى نظرةٍ موضوعية تأخذ جميع الظروف المحيطة سلباً كانت أم إيجاباً؟ تحديداً أن كل ما تم كان أساسهُ خطة وضعها حكام المشيخة اسمها «رؤية قطر 2030»، وكان الهدف منها جعل المشيخة في مصافِ الدول المتقدمة بعدَ أن كانت صحراء قاحلة، وربما هو حال جميع الدول الخليجية، فهل انتبهنا إلى أن هذهِ الخطط تمكنت فعلياً من تحقيق الأهداف فيما لا تزال غيرها قابعة في روتين الإجابة على سؤالٍ بسيط على طريقةِ أيُّهما سابق للآخر القضاء على الفساد أم الإصلاح الإداري؟!
مبدئياً، نعم نجحت المشيخة مثلاً بتحويل الهجوم ضدها كهجومٍ على الدين الإسلامي، لكن هل هذا هو حالها لوحدها؟ في الكثير من الدول في شرقنا البائِس يبدو مجردَ طرح سؤال «تقديم العقل على النقل» هو خروج عن الملة، أما اتهام فتاوى «ابن تيمية» بأنها أداة إرهابية فقد يعرضك للتكفير المبطَّن والمعلن، دعكم من الدين يوماً ما هناك من كان يعتبر بأن انتقاد وزيرٍ للإعلام أو الإعلام السوري مثلاً هو إساءة لدماء الشهداء من الإعلاميين، وكأن وزارة التربية والكهرباء والنفط لم تقدم شهداء فلا مشكلة بانتقادهم بسبب تدني الخدمات أو أن شهداءهم درجة ثانية! لكن هل يجوز اختزال المؤسسة بشخص؟ جميعنا يمارس الانكفاء نحو الأسلحة الشعبية عندما نشعر بأن الانتقاد يصيبنا في الصميم لكننا للأسف لا نرى إلا ما نريد!
هناك مثلاً من تحدث عن الأموال الهائلة التي صُرفت لإعداد المنشآت ومقارنتها أساساً بما تم صرفهُ في دولٍ ثانية استضافت البطولة ذاتها، ببساطة هذه المقاربة تبدو قاصرة لأسبابٍ عدة أهمها تجاهل فكرة أن جزءاً لا يستهان بهِ من الصرفيات كانت على البنى التحتية التي كانت تفتقدها المشيخة وهو ما لم يكن ينطبق على الدول المتقدمة التي استضافت البطولة كروسيا وفرنسا، فهناك فرق بين البناء من الصفر أو إتمام ما هو مُنجز أساساً أو تطويره كما حدث في فرنسا، هذا يذكرنا باستضافة مدينة اللاذقية دورة ألعاب البحر الأبيض المتوسط عام 1987 وهو آخر حدث «عليه القيمة» تستضيفهُ سورية، هل يمكننا القول: إن المدينة لم تستفد من هذه الاستضافة بمشاريع البنى التحتية؟ حتى المدينة الرياضية نفسها وصفتها صحف غربية يومها بكونها لؤلؤة على المتوسط قبل أن ينبت العشب في ملاعبها وتتحول صالاتها إلى بؤرِ استهلاك لترميماتٍ وهمية حتى ما قبل الحرب؟!
أما الحديث عن الفخامة المصطنعة والمبالغ بها، فهو حديث يبدو منطقياً من جهة، لكن من جهة ثانية قد لا يدرك مطلقوه بأن كرة القدم العالمية اليوم هي استثمار بالملاعب وحتى أكمام القمصان، عندما نتحدث عن هدرٍ للأموال بفخامةٍ مصطنعة يجب أن يكون الحديث شاملاً لكل حيثيات كرة القدم، هل يقبل حتى فريق درجة ثانية أو ثالثة في الدول الأوروبية لعبَ مباراة من دون الحصول على المال وكل مستلزمات رفاهية الرحلة؟! لماذا لا نتحدث عن الرواتب الخيالية التي يتقاضاها مسؤولو الفيفا أو الاتحاد الأوروبي، ألم يكلِّف عقد الأرجنتيني ليونيل ميسي الأخير مع برشلونة خزينةَ النادي نحو نصف مليار دولار ليترك النادي في ورطة مادية مازال يجني ثمارها حتى الآن؟! أين هي المشاريع التنموية التي وعدَ الفيفا بدعمها بما فيها الملاعب الخاصة في الدول الفقيرة؟ مشكلة البعض بأنه يقيس الأمر بمقياس الرياضة السورية مثلاً التي حتى الأمس القريب كان اللاعب فيها ينهي عمله الذي يعتاش منه ثم يتجه إلى المباراة أو التدريب، هذه حقائق عشناها جميعاً ويعرفها كل متابع للرياضة السورية لكنها ليست المقياس الحقيقي للرفاهية الرياضية التي وصل إليها الاستثمار بالرياضة.
في الخلاصة: ربما أهمًّ درسٍ علمتنا إِياه الحياة أن ما من سلبيةٍ مطلقة ولا من إيجابيةٍ مطلقة، بمعزلٍ عن الثمن الذي دفعهُ العرب لاستضافةِ هذه البطولة، دعونا نتفق بأن لغةَ المال والاستثمار اليوم هي مستقبل العالم لا الشعارات الفضفاضة، ومن الواقعية بمكان ألا ننسى سلبيات هذا الحدث، لكن من الواقعية أيضاً ألا نتجاهل الإيجابيات إلا إن كنا نظن بأن التركيز على السلبيات هي انتصار لسلبياتنا، عندها فقط سنكون أمام كارثة مستمرة لا يبدو هناك حدود لنهايتها، العالم ودورانه لن يتوقف عند دولة ولا حتى عند شعار.
سيرياهوم نيوز1-الوطن