سامر الشغري
تخبرنا كتب التاريخ أن بلاد الشام كانت عبر العصور أرض الزلازل والهزات الأرضية، إذ شهدت المئات منها والتي أتت على مدائنها وحضاراتها وأثرت في سير الأحداث فيها، وهذا ليس بالغريب ما دام باطن هذه الأرض احتوى الصدع السوري الإفريقي أو الأخدود العظيم، إحدى أخطر الظواهر الجيولوجية في العالم.
إن اهتمام المؤرخين القدماء بالزلازل في منطقتنا استرعى انتباه أحفادهم اليوم، فالباحث السوري الدكتورعبد الكريم السمك لاحظ بأن (المتتبع يجد أن بلاد الشام قد احتلت مركز الصدارة في سجل أحداث الزلازل في مصادر التاريخ الإسلامي)، وهذا مؤشر لقوتها ولما تسببت به من خسائر، ولكثرتها مقارنة مع غيرها من المناطق، كما أن أرض الشام شغلت أهمية خاصة عند المؤرخين القدماء.. وانتقل هذا الاهتمام إلى مؤرخي اليوم فنشروا العديد من الكتب والدراسات وصفت ما طال أرض الشام من زلازل، كالباحث الفلسطيني تيسير خلف الذي يقدم استناجاً صادماً بأن هذه المنطقة «كانت مشهورة في وعي تلك الأزمنة بأنها بلد الكوارث»، ويؤكد ذلك الإحصاء الذي قدمه الباحث الفلسطيني خالد يوسف الخالدي في كتابه (الزلازل في بلاد الشام) من خلال وقوع ( 79) زلزالاً منذ دخول العرب المسلمين لمنطقتنا حتى نهاية القرن (19)، ويعود الباحث السوري وابن حلب الدكتور محمد هشام النعسان إلى زمن أبعد عبر دراسته (الزلزالية التاريخية في حلب حتى القرن العشرين) مقدماً رقماً أكبر يصل إلى( 120) زلزالاً منذ عام 525 قبل الميلاد حتى عام 1896، بينما ألف الكاتب العماني أسعد العامري بحثاً بعنوان (زلازل بلاد الشام وآثارها الاقتصادية والنفسية والاِجتماعية منذ بداية القرن الأول الهجري حتى عام 130 هجري) متناولاً عمق وفداحة الآثار المترتبة على وقوع تلك الزلازل، ولاسيّما المدمرة منها، والتي شملت الكثير من الجوانب الحياتية.. ولم يقتصر أثر هذه الزلازل على البشر والبنيان فحسب بل شمل الدول حتى، فالباحث تيسير خلف ينسب للزلزال الذي وقع في مطلع سنة 749 ميلادية ودمر الكثير من قرى الشام وبلداتها، التسبب في سقوط الدولة الأموية في العام نفسه، أما الزلازل التي وقعت في عامي 633 و636 وأصابت فلسطين وحمص فجعلت البيزنطيين يطلبون الصلح والتسليم من العرب المسلمين وفقاً للباحث خالد يوسف الخالدي.
ويحدثنا ابن الأثير في كتابه الكامل في التاريخ عن زلزال أصاب الشام زمن خلافة سليمان عبد الملك سنة 717ولكن الهدم فيه لم يكن كبيراً، غير أن الدمار كان مهولاً مع الزلزال الذي أرخ ابن عساكر وقوعه ضحى يوم الخميس في تشرين الثاني من سنة 847 ، «فتداعت أجزاء من الجامع الأموي في دمشق، وسقطت قناطر ومنازل، وامتد الخراب إلى الغوطة، فأتى على داريا والمزة وبيت لهيا وغيرها، حتى خرج الناس إلى المصلى يتضرعون فسكنت الدنيا».
وسنجد أول ذكر لكارثة التسونامي لدى مؤرخينا في الزلزال الذي ضرب فلسطين آذار من سنة 1067، إذ وصف ابن كثير في كتابه البداية والنهاية «الدمار الذي حل ببلدة الرملة، وأهلك من أهلها (15 ) ألف إنسان، والبحر الذي غار وساخ في الأرض وظهور أشياء من جواهر وغيرها مكان ماء البحر ودخل الناس في أرضه يلتقطون، فرجع عليهم، فأهلك خلقا كثيراً منهم».
وإذا مضينا قدماً مع التاريخ سنصل إلى الزلزال الذي دمر قلعة شيزر في شهر آب من سنة 1157 مسقط رأس الشاعر والفارس أسامة بن منقذ، إذ هلك كل أفراد أسرته وأقربائه فرثاهم في كتابه المنازل والديار، ولعل أبلغ وصف عن حجم الدمار في هذا الزلزال تلك الحكاية التي رواها المؤرخ كامل الغزي في كتابه نهر الذهب في تاريخ حلب، «أن معلم كتّاب من حماة ترك صبية يتعلمون عنده ساعة وقوع الزلزال وعندما رجع إليهم وجدهم ماتوا جميعاً، ثم انتظر أن يأتي أهلهم ليسألوا عنهم فما جاء أحد ما يشير إلى موت الجميع».
ورغم فداحة هذه الزلازل، فإنها لا تشكل شيئاً أمام الرعب الذي نشره زلزال وقع في أيار من سنة 1201، إذا بلغ عدد ضحاياه وفقاً لسبط ابن الجوزي المليون إنسان وقد يكون هذا الرقم مبالغاً فيه، ولكن أثر الزلزال طال أجزاء كبيرة من العراق وتركيا وبلاد الشام التي لقيت الدمار الأكبر كما ذكر ابن كثير، الذي تحدث عن خسف أودى بقرى في الريف والساحل ودمار أحياء من دمشق وطرابلس وبعلبك وصور وعكا ونابلس التي مات من أهلها ( 30 ) ألفاً تحت الردم.. ولم يمح من الذاكرة الزلزال الذي ضرب مدينة حلب في 11 تشرين الأول من سنة 1138 لأنه الأعنف على الإطلاق وترتيبه عالميا الثالث، إذ أودى بحياة ( 230) ألف إنسان كما ورد في كتاب مرآة الزمان لابن سبط الجوزي، أما ابن القلانسي فيصف قوة هذا الزلزال بأنه «كان بالدنيا كلها، ولكن كانت شدته بحلب أعظم ثمانين مرة، ورمى أسوار البلد وأبراج القلعة، وهرب أهل البلد إلى ظاهرها».. وظل نصيب حلب من الزلزال كبيراً مع الزلزلية التاريخية الكبرى التي أصابتها في 13 آب من سنة 1822، إذ يذكر الدكتور محمد هشام النعسان أنها استمرت أربعين يوماً وأهلكت ( 15) ألف إنسان وأحدثت دماراً هائلاً في المدينة.. ولم يكن الزلزال الذي ضرب دمشق في سنة 1759 بالحدث العادي لذلك خصص له المؤرخ الدمشقي البديري الحلاق فصولاً من كتابه (حوادث دمشق اليومية)، فحدد توقيته بدقة مبيناً أنه وقع ليلة الثلاثاء من تشرين الثاني في الثلث الأخير من اليلل والمؤذنون على المآذن، عندما وقعت خفيفة تبعها زلزلة ثانية وثالثة زلزلت منها دمشق زلزالاً شديداً.
والغريب أن قرناً واحداً هو القرن العشرين لم تشهد فيه بلاد الشام زلزالاً مدمراً، ما جعل ذاكرتنا جميعاً تنسى القرون السابقة المملوءة بالأحداث الأليمة، واعتبرناها جزءاً من ماض غاب ولن يعود، لنستفيق فجر السادس من شباط 2023 على كارثة جعلتنا نفتح دفاترنا القديمة وجروحها الغائرة.
(سيرياهوم نيوز ٤-تشرين)