حتى العقد الأخير من القرن الماضي، كان ثمة إصرار في الساحة الثقافية السورية – لا أعرف إن كانت خاصيّة سورية، أم أنها عربية عامة – وهي الإصرار في المشهد النقدي الثقافي على تصنيف النتاج الشعري ضمن أجيال وعقود، وأقطاب. وقد درج النقاد على ذلك التصنيف منذ عقد الستينات من القرن العشرين، وقليلاً جداً خمسيناته، ثم بقي هذا “التجييل” حسب العقود التالية فيما بعد، وصولاً لعقد التسعينات، ومع دخول العالم بالألفية الثالثة، خفت الحديث فجأة عن مسألة “التجييل العقدية” وحتى غاب ذكر أقطاب كل عقد، وأقطاب كل جنس إبداعي، بل وكأن المشهد الثقافي اليوم قد اختفى منه الأقطاب، وأصبح الجميع يُصنف (دوغما)، فلا رموز شعرية اليوم، ولا حتى طبقات.. أيُعقل أو هل نُصدق أننا أمسينا اليوم في مناخٍ ثقافيٍّ ديمقراطي، بحيث أصبح الجميع في نفس التراتبية، ثم ماذا عن الذين صنفوا خلال العقود الماضية على أنهم أقطاب تلك العقود، ومايزالون أحياء.. لماذا ليسوا الآن أقطاباً؟؟!!
مقولة الجيل
وفي تقديري إنّ مقولة “الجيل” هي من الكلام الدارج، وربما كانت وفق هذا التوجه في الزمن أكثر من دخولها في الفن، ثم أن الكلام على الممارسات الإبداعية المتراتبة أو المقدمة بصيغة الأجيال المختلفة، يبقى كلاماً تعوزه الدقة، ويفتقرُ إلى الاتساق الضروري في النظر النقدي – على ما يرى الناقد وفيق سليطين على سبيل المثال – إنّ مقولة “الجيل” قد تنطوي على التمايز والمباعدة أكثر ما توحي به من التوحيد والتجانس، أضف إلى ذلك أنها لا ترق إلى كونها علامة قطع ومغايرة بالمعنى النقدي، وهي لا تعني إنشاء جدران عالية بين حقول زمنية ينغلق كل منها على نفسه، فمثل هذا التصوّر؛ هو بعيد عن روح الفن، غير أن الحديث النقدي خلال العقود ما قبل عام الألفين كانت توحي بغير ذلك، أو عكس ذلك حيث كل جيل، وكأنه جزيرة منعزلة عن الأجيال التي سبقته، أو التي كانت لاحقة به..!
والحقيقة كثيراً ما تساءلت: لماذا بقي الشعر وحده من بين الأجناس الأدبية، يُصنف على شكل أجيال وبالعقود من السنين؟. وأيضاً ثمة من يحدد له أقطابه في كل عقد، ثم أقطابه لكل العقود وتحديداً – كما أسلفت – بدأ الأمر منذ عقدي الستينيات والسبعينيات إذ ليس ثمة «تجييل» لشعراء وقصائد، أو عقود شعرية قبل ذلك ربما هناك مراحل أو فترات ترتبط بمراحل تاريخية وعصور، حيث لكل مرحلة أقطابها وقصائدها لكن مسألة «العقود الشعرية»، فهي صناعة الستينيات، وتكررت حتى وصلت الى التسعينيات، ويبدو أنه التبس على «المجيّلين» بعد ذلك، فأصبحوا يقولون جيل التسعينيات وما بعده، أو من جيل التسعينيات الى الآن.. ولا أعرف السبب في إلحاق من أصدر شعراً منذ بداية الألفين بالعقد السابق…؟!!
صناعة ستينية
إذاً بقيت مسألة الأجيال، والعقود، والأقطاب حكراً على الشعر، الأمر هذا غاب عن الرواية والقصة القصيرة وحتى المسرح والسينما، والتشكيل، باستثناء الحديث عن (جيل الرواد) عند حالات التأصيل لكل نوع مما سبق، فثمة من تحدث عن «ريادة ورواد» في هذه الأجناس.. وكانت أبرز عقود الشعر هي: الستينيات والسبعينيات.. و«البروز» هنا كان له أسبابه وظروفه، التي لم تتوفر لمن كتب شعراً في العقود اللاحقة، ومن ثم البروز هنا احتفالي وريادي وإعلامي وحسب وليس للأهمية..!!
«يفلسف» البعض الأمر كالتالي إن المسألة في الشعر مختلفة، فكل جيل من الشعراء لهم آباء يبنون عليهم ثم «يتجاوزونهم» وقد لا يتجاوزونهم.. ذلك أن الشعر له جذوره، وله ينابيعه التي سيظل يمتح منها الشعراء.. أما القصة ففن مستحدث أو يكاد، ومن ثم فإن قصر المسافة الزمنية، والتي لا تؤهل للريادة كما يجب، ومسألة الأقطاب مسألة خلاف، ورغم أنّ فن القصة في العالم العربي لايزال خاضعاً للتجريب، ومع ذلك لم يكاد يصل تلك المرحلة حتى أصابته نوبة ترهل مفاجئة أوحت أن القصة القصيرة قد وصلت إلى خواتيمها، وربما مرافئها الأخيرة، في ظاهرة لم تُدرس كما يجب إلى الآن، وهي حالة نوع إبداعي ما أن أعلن عن نضجه وبدأ مسيرته، حتى انكفأ فجأة، واضمحلّ بما يوحي بتسجيل آخر صفحاته. ذلك إن الهموم تكاد تتشابه لدى كتاب القصة، لكن الأساليب الفنية تختلف غالباً بسبب التجريب، فكل كاتب قصة لايزال، وربما سيبقى يبحث عن شكلٍ بخلاف الشعر الذي له خط تطور متصاعد في الشكل الفني، ورغم ذلك ليس من كتاب القصة من يتطاول ويرى بنفسه أنه يكوّن لها أو يشكل قطباً.. أي لايزال من المبكّر لهذا الفن حتى يخلق أقطابه، هكذا كُنا نظن خلال سيرورته، والتي يبدو وكأنها شبه توقفت فما يصدر من القصة اليوم لا تُضيف جديداً لما صدر فيما سبق، أو تلوّن عليه، وهو بعكس حالة الشعر، إذ تولد القصيدة – رغم كل هذا الركام الشعري- دائماً باقتراحات صياغة مختلفة إلى حدٍّ بعيد…!!
آخرون يشككون بالمسألة برمتها، ولا يهتمون بموضوع الأجيال، لاسيما في مجال الرواية، والرواية الجيدة بتقديرهم، هي علامة في سجل الرواية بصرف النظر عن الجيل الذي تنتمي إليه. أما أن الرواية لم تخلق أقطابها فمازال الوقت مبكراً أيضاً – على ما يزعمون- لحكاية الأقطاب رغم كثرتهم، وإذا كان اليوم ثمة صحف ومنابر إعلامية مختلفة؛ تقوم بتطويب هذا وذاك، وهي مهمة تطوّع لها الكثيرون، وهنا تلعب العلاقات الشخصية والمنافع المتبادلة دورها في التطويب، وليس سراً أن هناك شبكة في العالم العربي الذي لم يتوحد، فوحدته المصالح الثقافية متمثلة فيه بأردأ أشكالها.. يكفي أن يقول ناقد معروف إن رواية ما حققت سبقاً وخرقت المحظور وباحت بالمسكوت عنه وأشياء من هذا القبيل حتى تردد وراءه جوقة من المريدين والتابعين ما قاله مع الإطناب مرفقاً بتأويلات تكرسه. وليس سراً أيضاً القول بإن الشللية في القطر الواحد تنعم على أفرادها بما أنعمته عليها شللية في قطرٍ شقيق..!!
رأي مغاير
فيما للراحل الأديب المصري جمال الغيطاني رأي آخر إذ يجد أن للرواية أقطابها، ففي مصر مثلاً كما ذكر لي – في ذات حوار – ثمة تياران: الأول: يقوده صنع الله إبراهيم: تيار متأثر بالرواية الأوروبية الحديثة، والثاني يقوده هو شخصياً والمتعمق بالتأصيل.. وبالنسبة للتجييل فثمة ظواهر تكوّن حركة ورؤية نتيجة ظروف تاريخية معينة وليس بالضرورة كل عشر سنوات، مثلاً في ألمانيا حركة الـ (47) لاتزال مستمرة الى اليوم وحول مسألة الأقطاب يرى أن هناك أقطاباً في الرواية: عبد الرحمن منيف، صنع إبراهيم، حنا مينة.. هؤلاء برأيه أولياء في الرواية ومتميزون ولكل خطه ونهره الخاص.. وهنا كما يُلاحظ؛ فإن الغيطاني أيضاً اختار الأقطاب من عقدي الستينيات والسبعينيات.. هؤلاء الأقطاب الذين صعدوا على أكتاف الإيديولوجيا والأحزاب حيث ساحات وسائل الإعلام التي كانت شبه فارغة إلا منهم، فكان أن (طغوا) وغطوا على كل من جاء بعدهم ومن ثم شكلوا «عائقاً» أمام ظهور أقطاب جديدة التي هي اليوم قابعة في الظل.. هنا الأجيال السابقة التي لا تترك مجالاً للاحقة لأن تخرج..!!
إذاً هل نفهم اليوم “السر” أو حل اللغز خلف خفوت الحديث عن مسألة “التجييل” التي كانت حديث المثقفين والمبدعين على تلوينات مشاربهم الثقافية على مدى نصف قرنٍ مضى..؟؟!!
بقي أن أشير لأمر لافت، وهو أن شاعر مثل أدونيس كان عصيٌّ على عقودٍ محددة أن تختص به، فقد بقي شاعر الأجيال ومفكر عقودها كلها.
(سيرياهوم نيوز-تشرين)