| إسماعيل مروة
ممدوح عدوان لم يغادر الساحة حتى يعود إليها، وهو الحاضر ليس بشخصه فقط، بل بقضاياه التي طرحها، سواء في شعره المتفوق الواضح المباشر، أو في مسرحه الرافض، أو المونو درامي الذي يترك الإنسان وحده في دوامة الصراع، أو في قراءاته التاريخية التي ترفض مبدأ ضحية التاريخ وشخصياته، أو في معالجاته الدرامية التي تضع الأمور في دوائر من نار الإنسان، أو في ترجماته أو مقالاته، وحين تصدر الأديبة والصحفية نهلة كامل كتابها الجديد (ممدوح عدوان- الفارس الخاسر) عن دار التكوين فإنما تعيد جذوة ألق الشاعر والمسرحي والصحفي والمترجم كما عرفته هي، وكما عرفه كثير من معاصريه، وهو الذي قضى حياته كجواد يعرف خاتمته، لكنه لم يرضخ لأي نوع من السكون، حتى وصل إلى خاتمته بإرادته يحمل معه أوجاعه وأوجاع أمته، ولا يمكن للمرء أن يعرف على وجه التحديد السبب الأساسي في العلة التي تنتهي بالآمال! عند الرحيل أرادوا يقول فيه محمود درويش الشاعر الكبير مستغرباً ما أقدم عليه ممدوح عدوان في رحلته الإبداعية: «كم حيرني فيك انشقاق طاقاتك الإبداعية عن مسار التخصص، كعازف يختار في أي آلة موسيقية يتلألأ، ألم أقل لك إن واحداً منك يكفي لتكون عشيرة نحل تمنح العسل السوري مذاق المتعة الحارقة؟! وقال فيه سميح القاسم «لم يكن مجرد شاعر، بل ظاهرة ثقافية وحالة إنسانية متميزة، كما يعلم كل من عرفه وقاسمه شيئاً من الزمن والتجربة». لا أستذكر هنا من قال وماذا قال ولماذا قال بقدر ما أبحث عن كينونة ممدوح عدوان أو مدحة مصطفى كما هو اسمه في شهادة الميلاد وتذكر ذلك الكاتبة، أبحث عن الكينونة التي كانت تسابق الزمن، فممدوح عدوان التقيته كثيراً، ولم يكن مزاجياً مزعجاً، بل كان ودوداً من الجميع، لذلك كان اللقاء معه من اليسر والجمال، وفي كل مرة كان ممدوح يشعل فتيل إبداع، وقبل أن تظهر عليه عوارض المرض، وقبل أن يعرف بالمرض، وبعد أن تآلف مع المرض بقي ممدوح عدوان شعلة من عمل ونشاط، وبعض المبدعين الذين أصيبوا بالمرض وهنوا، وآخرون استيقظوا، أما ممدوح فقد كان شعلة متوقدة، وهو صاحب (حال الدنيا) وهو الذي أدرك مبكراً أنه يصارع الزمن فيما أطلق عليه وأكدته المؤلفة العارفة له (الدون كيشوتية) لكن ممدوح عدوان حارب بهذه الطريقة، لكن لم يقارع طواحين الهواء، بل كان في كل محطة فارساً، لم يخسر يوماً، لأن الذي خسر هو الآخر، وممدوح عرف ما يريد لذلك لم يكن خاسراً، وما ضرّه لو لم يعرف الآخرون؟! هذا ليس زماناً هو الوقفة العائمة ليس هذا زماني وليس هذا زمان الضمير خانني قائد الزنج في وسط الحرب جيش الموفق يطلب رأسي وحبذا التتار يرصون حولي السيوف ليس هذا زماناً هو الزمن المستحيل وعي مطلق عند الشاعر بالزمن والحقيقة، وبأن هذا الزمن ليس زمناً، وإنما هو المستحيل، والعارف بالعرف الصوفي والعرفاني والمعرفي، لا يخسر، وإن خسر الرهان، لأنه دخل في صلب العملية النوعية لصقل الجوهر والفكر، وهذا ما أذكره من لقاء شبه أسبوعي كان مع ممدوح في عام 1994 في مكتب مجلة (الشهر) عند الأستاذ الراحل ياسر عبد ربه عندما كان يكتب زاويته الأخيرة في المجلة وكان ينثر كل ما لديه بعلامات استفهام عديدة ويغادر وهو يرفع غرته بإصبعه. العمل والمنهج كل واحد كان بإمكانه أن يكتب عن ممدوح عدوان، وقد كتب عنه وعن غيره عدد من غير المحبين، ودبجوا فيه كلاماً وبغيره كلاماً كثيراً، وما أسهل أن يكتب أحدهم عبارات الإنشاء وهو يستخلصها من كلام حقيقي للمؤلف، ولكن نهلة كامل جاءت على جوانب أخرى مجهولة لدى الكثيرين، ولا يعرفها سوى قلة من الناس عاشروه في عمله، خاصة في عمله الصحفي، وهنا نكتشف مع الكاتبة أهمية العمل الصحفي لممدوح، وربما هو الذي أعطاه مساحة من الغنى واستوعب ما رآه محمود درويش عزفاً على آلات متعددة، فهو صاحب اللغة الثانية والشعر والمسرح والمقال، ومهارات اكتسبها من عالم الصحافة جعلته متعدداً «علمنا عدوان أهمية تشكيل فريق عمل طليعي في الصحافة، قادر على التعبير والمشاركة في النصف الثاني من القرن العشرين، وقد أحسست أن روح المبادرة والحماس لتغيير نمط التعود الروتيني على الترجمة إلى البحث عن المواضيع النابضة والإشكالية..». وتتحدث المؤلفة المعايشة لتجربة ممدوح في سباقه مع الزمن، وهي تقصد هذا الحديث عن آلية عمله، والتي قد ينتقدها كثيرون، لكنه كان يعقلها وكانت مثمرة، وهي اليوم محل امتداح «عندما كان يأتي إلى مكتبه في الجريدة لينهي عمله خلال ساعتين على الأكثر، بل كان يكتب بسرعة مدهشة، وهو لا يبذل وقتاً إضافياً لتبييض صفحاته، فقد كان خطه مفهوماً ومقروءاً، فقط، وصفحته المسودة كأنها أعدت في ذهنه من قبل». وفي هذا الكلام دلالتان الأولى بأن أفكار ممدوح الصحفية أو التي يريد كتابتها، كانت مكتوبة في صفحة ذهنه بسبب الغنى المدهش لديه، وهو لا يحتاج إلى ولادة الأفكار لأنها تتزاحم لتخرج وقد تم ترتيبها من قبل في ذهنه، والثانية من الدلالات تتعلق بتعامله مع الزمن، فالزمن لديه مهم وهو يمكن أن ينهي مجمل أعماله في وقت قصير، وترى نهلة كامل أن الوقت الأقصى الذي يستغرقه في الجريدة هو ساعتان، وتقارن بين ممدوح وغيره من الذين زاملوه في تلك الفترة، فالصحافة لم تكن لديه عملاً مكتبياً يستهلك وقته الطويل القصير، بل كان استراحة لتفريغ شحنة من الإبداع رتبت في الذهن. عمق المأساة عند عدوان يا بلادي التي علمتني البكاء ما الذي سوف تعطيني في المفاجأة المقبلة؟ في البحث عن عمق المأساة في فكر ممدوح عدوان لابد من التبحر والتعمق، لأن أدب عدوان ليس أدباً مؤدلجاً بالمعنى المستوي المتوجه باتجاه محدد لا يغادره، وإنما هو أدب هادف مؤدلج يعتمد الحرية، لذلك لم يعمد في أدبه إلى تسطيح الأمور، وإنما عالج القضايا بكثير من الوعي الروائي والمسرحي والشعري، وقد وقفت المؤلفة عند محطات غنية من محطات ممدوح: 1- ليل العبيد والمسرح، أثارت مسرحية ممدوح (ليل العبيد) ضجة كبرى وأوقفت المسرحية بعد عرضها الأول من إخراج نائلة الأطرش لأن ممدوح تناول فيها التاريخ من وجهة نظره، وهي الرافضة للتقديس والقبول بما هو مطروح من الهرم السياسي والديني، وقد أفردت المؤلفة لرؤية عدوان في حزب الجوع حيزاً يظهر أن فرضيته هذه ليست وقتية، وإنما تقوم على سلسلة تاريخية (يبدأ في تشكيل حزبه منذ بداية الرسالة النبوية الإسلامية، وفي مراحل لاحقة لدولة الأمويين والعباسيين وهجوم التتار، والاستعمار التركي والفرنسي، والنكبة، ويعطي عضوية الشرف لرموز تناولناها في قراءة مسرحه المتمرد». وتشير إلى أهمية هذا الحزب بقولها: «إن حزب الجوع، في أدب عدوان يستوعب الأفكار والأنماط التحررية في الأنثروبولوجيا الإنسانية فقد كان متشرباً بلاهوت الثورة اليساري الجديد، وخلط هذا اللاهوت في مجمل تجربته الإبداعية الحياتية». هذا الفهم المختلف والعميق عند ممدوح عدوان هو الذي أعطاه رؤية مختلفة، إذ لا يرى أن بداية مشكلات العرب تبدأ من النكبة واحتلال فلسطين، ولو رأى ذلك ما اختلف عن غيره ممن كتبوا، وإنما يراها بشكل أكثر عمقاً وتجذراً. «يرى عدوان أن اختصار نكبة قيام الكيان الصهيوني في سياقها السياسي ليس كافياً للتعبير عن العمل الصهيوني المتكامل لاحتلال فلسطين والسيطرة على الواقع العربي، لهذا فإنه يركز جهوده على الجانب المعرفي للهزيمة الكبرى.. ويكشف «تهويد المعرفة» إن الصهاينة كانوا قد قرروا من خلال ركام عال من ا.لدراسات الأكاديمية أنه لم يكن هناك تاريخ في فلسطين سوى التاريخ اليهودي، وهذا لم يكن بحثاً في التاريخ أو بحثاً في الحقيقة، بل كان جزءاً من المشروع الصهيوني». وقد يكون من الجائز لي هنا أن أستخلص أمراً مهماً في أدب عدوان المسرحي والشعري والدرامي، وهو محاولة أنسنة الإنسان العربي ووضعه في حجمه الطبيعي، وهذا ما كان من أمره في الزير سالم حين خالف الناس، حتى النخبة منهم ليقدم الحقيقة، ليقدم إنساناً بكل تناقضاته، ومن الممكن لنا عندما نبتعد عن أسطرة الإنسان أن نصل إلى غاياتنا. «ممدوح عدوان الفارس الخاسر» كتاب مهم وحميم وموثق لكاتبة عاشت حقبة من الزمن فيها شبه تلازم مع عدوان وأعماله وأفكاره، ناقشت الأفكار والآراء بعمق وجرأة، وعلى الرغم من تأخر نهلة كامل في نشر الكتاب وإعداده إلا أن ذلك أعطاه بعداً مرجعياً إضافياً.
(سيرياهوم نيوز-الوطن28-7-2021)