جنة الوهم لمن وراء لجة البحار يظنون أن المنى والسلوى حيث تقوم ناطحات السحاب وحيث كل إنسان مجرد رقم في بطاقة ما.
يحلم الكثيرون أن يصلوا الغرب ولكن ماذا عن الذين وصلوه وعاشوا فيه وقرؤوا بنيته الفكرية والاجتماعية التي تبدو كما أسلفنا مرآة تشد لكنها في واقع الحال وبعد التجربة هشيم بل بيت عنكبوت تمزق مرات ومرات.
أدونيس واحد من أهم المفكرين العرب والعالميين في المشهد كله … عاش في الغرب وخبره يبحر محللاً أعماق الوسط الاجتماعي … حصيلة التجربة كلها في كتاب مهم جداً صدر حديثاً عن دار التكوين بدمشق.. أعد الكتاب الدكتور علي محمد إسبر، وأشرف عليه الأستاذ سامي أحمد الشاعر المتألق ومدير عام دار التكوين.
يأتي الكتاب احتفاء بدخول أدونيس عامه الحادي والتسعين …
الكتاب سفر كبير يقع في أكثر من ٨٥٠ صفحة من القطع الكبير والتجليد الفني الفاخر..
وكان اللافت أن يفتتح الكتاب بقصيدة أدونيس قبر من أجل نيويورك.. تبدو القصيدة الملحمة استشرافاً للتاريخ والحراك الحضاري والتقني وقراءة في مسار غطرسة القوة .. نيويورك التي تدير العالم عبر حبالها السرية وأدوات فتكها المعلنة وغير المعلنة … هي الوجه الهمجي لكل جبروت الآلة والطغيان المادي.
تبدو سماء من الأضواء التي تعج بالحياة لكنها في الواقع حياة منخورة أكلها الصدأ تنقل عفنها إلى العالم.
تعمل على نقل بثورها إلى الخلايا السليمة وكأنها لا تريد أن ترى بقعة من العالم إلا وأكلها الصدأ وتغلغل الموت في ثناياها…
ونيويورك ليست إلا طفحاً أو ورماً زائداً على الوجود.. بل ربما زوالها يريح البشرية من ثآليل الجرب وويلات الحروب.. يقول أدونيس في هذه الملحمة التي تعود إلى سبعينيات القرن الماضي…
حتى الآن، تُرسم الأرض إجاصة أعني ثدياً لكن، ليس بين الثدي والشاهدة إلا حيلة هندسية:
نيويورك، حضارة بأربع أرجل، كل جهة قتلٌ وطريقٌ إلى القتل، وفي المسافات أنين الغرقى.
نيويورك، امرأة ـ تمثال امرأةٍ في يدٍ ترفع خرقة يسميها الحرية ورقٌ نسميه التاريخ وفي يدٍ تخنق طفلةً اسمها الأرض.
نيويورك، جسدٌ بلون الإسفلت. حول خاصرتها زنارٌ رطب، وجهها شباك مغلق.. قلت: يفتحه وولت ويتمان ـ «أقول كلمة السر الأصلية» ـ لكن لم يسمعها غير إله لم يعد في مكانه. السجناء، العبيد، اليائسون، اللصوص، المرضى يتدفقون من حنجرته، ولا فتحة، لا طريق. وقلت جسر بروكلين! لكنه الجسر الذي يصل بين ويتمان ووول ستريت، بين الورقة ـ العشب والورقة ـ الدولار…
نيويورك ـ هارلم، من الآتي في مقصلة حريرٍ، مَن الذاهب في قبر بطول الهدسون؟ انفجر يا طقس الدمع، تلاحمي يا أشياء التعب، زرقة، صفرة، ورد، ياسمين والضوء يسنّ دبابيسه، وفي الوخز تولد الشمس، هل اشتعلت أيها الجرح المختبئ بين الفخذ والفخذ؟ هل جاءك طائر الموت وسمعت آخر الحشرجة؟ حبلٌ، والعنق يجدل الكآبة وفي الدم سويداء الساعة…
نيويورك ـ ماديسون ـ بارك افينيو ـ هارلم، كسلٌ يشبه العمل، عملٌ يشبه الكسل. القلوب محشوة اسفنجاً والأيدي منفوخة قصباً. ومن أكداس القذارة وأقنعة الامبايرستيت، يعلو التاريخ روائح تتدلى صفائح صفائح:
ليس البصر أعمى بل الرأس، ليس الكلام أجرد بل اللسان نيويورك ـ وول ستريت ـ الشارع 125ـ الشارع الخامس، شبح ميدوزي يرتفع بين الكتف والكتف. سوق العبيد من كل جنس، بشرٌ يحيون كالنبات في الحدائق الزجاجية، بائسون غير منظورين يتغلغلون كالغبار في نسيج الفضاء ـ ضحايا لولبية، الشمس مأتمٌ والنهار طبلٌ أسود.
امرأة من الغش..
ونيويورك التي يعدّها الغرب رمز حضارته ليست إلا طبقة من الرياء والكذب حتى في تماثيلها يقول..
تفتتي يا تماثيل الحرية.. أيتها المفروشة في الصدور بحكمة تقلد حكمة الورد…. الريح تهب ثانية من الشرق تقتلع الخيام وناطحات السحاب…
نيويورك .. امرأة من الغش والسرير يتأرجح بين الفراغ والفراغ .. ها هو السقف يهتريء.. كل كلمة إشارة سقوط .. كل حركة رفش أو فاس.. وفي اليمين واليسار أجساد أن تغير…
ونيويورك – نيويورك = القبر أو أي شيء يجيء من القبر
نيويورك – نيويورك = الشمس..
تلك هي معادلة الحياة في ملحمة أدونيس وكما أسلفنا فما زالت ندية بهية تشع قدرة على قراءة مسارات التاريخ وما تمضي إليه غطرسة الجنون الأميركي.
الإنسان الآلة…
والحضارة التي يعيشها البشر الآن كما يرى أدونيس هي حضارة مريضة لحظة مرض وسواء سميت بما سميت … فإن الأمر لا يتغير نوعاً وإن تغير في الدرجة بحسب الشعوب والمناطق والظروف التاريخية والاجتماعية..
ويتمثل هذا المرض بالنسبة لي في أنه لم تعد للإنسان قيمة في ذاته ولذاته بوصفه إنسانا أياً كان موطنه وانتماؤه .. فقد أصبح الإنسان يقوم بوصفه مجرد وظيفة استخدام مجرد أداة أو شيء.
بل لقد أصبح هو نفسه آلة وربما صار الانقلاب عليه وشيكاً.. كما تمرد الإنسان على خالقه فإن الآلة سوف تتمرد هي نفسها على الإنسان..
ولهذا فإن الموقف من الحضارة الحديثة يتجاوز موقف النقد إلى إعادة البناء فالإنسان جوهرياً في ضوء ما يحدث في العالم اليوم .. إنما هي إعادة بناء العالم برؤية جديدة.
ويرى أدونيس أن المفارقة التي تصل إلى درجة العبث الفاجع هي أنك تجد في الغرب ثقافة ضدية تعارض تلك الصناعة الآخذة في تحويل الإنسان إلى شيء بين الأشياء بينما تجد في المجتمع العربي من يدافع عن الاصطناع الذي لا يشوه صورة العربي وحسب وإنما يستأصله من ذاته وهويته.
بينما نجد الفرح عندنا بهذا الاصطناع اقتناء اتفاقاً استهلاكاً.. ويراه البعض مظهراً يساويهم بالغرب.. ويطمس الرأس المال العربي تحت هذا الاصطناع، في الغرب ينصرف الرأسمال الإنساني إلى الإبداع والإنجاز هكذا يزداد تقدماً فيما نحن نزداد انقياداً لاقتناء ما يبدعه استسلاماً له .. إنه بالمعنى الحرفي .. لا يأسر طاقاتنا وحدها وإنما يأسر كذلك رغباتنا ذاتها.
ديمقراطية القنابل والصواريخ ..
وحين كتب قراءته عن الحرب الأميركية على العراق كان يحذر مما هو قادم وما تفعله واشنطن خدمة للكيان الصهيوني.. وكما قدم الفضاء العربي لهذه الحرب فسوف يقدم لتحرك (إسرائيل) في استسلام عربي وقائي شبه كامل وسوف يخطط له من الآن وصاعداً لتدمير أي نواة لمقاومة الهيمنة الإسرائيلية أي تدمير نواة للحرية …
هكذا يعطى لإسرائيل أن تبدأ بكتابة تاريخ جديد آخر لهذا العالم العربي وتعطى لهذه الولاية التابعة أن تصبح المركز العاصمة، المركز للولايات المتحدة في شكلها الإمبراطوري الجديد … عاصمتها في الفضاء العربي على الأقل.
صورة العالم غداً..
وحين يقرأ أدونيس من واقع الحال ما ستكون عليه صورة العالم غداً في ظل ما يجري يبدو الاستنتاج جرحاً فاغراً لا يمكن أن نوقف نزيفه.
البشر كلهم في جهة والوباء الكوروني في جهة إلا في العالم العربي الإسلامي… شعوبه كلها غرباً شرقاً شمالاً جنوباً مأخوذة بإبادة بعضها بعضاً أفراداً وجماعات وفي مختلف الميادين ..
وفي المشهد المستقبلي كما يضيف .. الليبرالية الجديدة في صورتها الأميركية هي فائدة أوركسترا في جوقات هذه الهيمنة الثقافية تجلياتها جميعاً موضوعة في الكيس الإعلامي الذي تسهر عليه هذه الليبرالية باسم العولمة وهي كما تؤكد التجربة عولمة الابتذال الذي يقوم على تمجيد السوق والكم وعلى تمجيد الآلة..
إنها الوباء الكوني الذي يتقدم في غزوه وزحفه الجديدين .. لكي يحول الإنسان إلى آلة.
(سيرياهوم نيوز-الثورة٣-٣-٢٠٢١)