| علي أحمد الديري
يقع الإنسان في مركز علم الكلام الجديد الذي يعمل الدكتور عبد الجبار الرفاعي على صياغته في الثقافة العربية. هو يرى أن الدين لا يمكن فهمه فهماً يليق بالإنسان وبكرامته إلا حين نقدّم الدين من خلال تعريف الإنسان. الكرامة هي العنوان الأبرز لفهم الإنسان وفهم خلافته في الأرض. هذا ما يتحدّث عنه كتاب «الدين والكرامة الإنسانية» في طبعته الثانية المزيدة والمنقّحة.
إنّ «الكرامة هي وعي الإنسان بالحرية»، متى أصبح الإنسان يعي الحرية ويعمل وفق مقتضيات الحرية حينها سيكون قد نال الكرامة وفهِم معناها. والكرامة كما يقدّمها لا تعني عدم الإهانة فقط. «عدم الإهانة» هو أثر من آثار الكرامة، أي لتكون كريماً، وكرامتك مصونة، فشيء من الأشياء هي ألا تُهان، ولكنّ الكرامة أوسع من عدم الإهانة.
الكرامة تعني حفظ الحرية، حفظ حرية الإنسان وإتاحة المجال له لكي يتصرّف كما يريد. كل شيء يغيّب وعي الإنسان، ينتهك حريته وتصرّفه، وكرامته لأن الكرامة هي أن يبقى الإنسان واعياً لحريته. الهيمنة على وعي الإنسان وتغييب وعيه وإقفال خياراته، ينتهك كرامته وهذا الانتهاك يتم داخل الدين أحياناً وخارجه أحياناً أخرى.
ربّما باسم الإلحاد أنت تنتهك كرامة الإنسان، وربّما باسم الرأسمالية، وربّما باسم الحرية لأنك تتصرّف تصرّفاً يغيّب وعي هذا الإنسان. بناءً على ذلك، كل تأويل يحرّر الإنسان من عبادة الآخرين فهو ينتصر لكرامته، وكل تأويل يحرّر أخلاق الإنسان من الجماعة الخاصة، من الطائفة، من المذهب، من الدين المغلق، فهو أيضاً كرامة لأنه يترك له حرية الاختيار والتصرف ويفتحه على الإنسان. من هنا، فإن الكرامة تبدأ بالفرد، كما يقول، وتنتهي بالأمّة، الفرد هو مركزها، الفرد هو خليفة الله في الأرض، هو الذي يختار، هو الذي يتصرف، هو الذي يعي.
لا بدّ أن نفهم الإنسان بهذه الحرية لنصون كرامته، وانتهاكات الكرامة تتمّ بالظلم، الإذلال، الاحتقار، الإهانة، الإهمال، التجاهل، الاستغفال والتدجين.
وهنا يلفتنا أيضاً الرفاعي إلى مسألةٍ هامة تتعلّق بوجود الإنسان، يقول إن الله قد كرّم بني آدم تكريماً وجودياً، بمعنى أن وجوده، كينونته، جوهره، تكوينه، كلّ ذلك مصنوعٌ من الكرامة، جوهره من الكرامة، أصله من الكرامة، هي ليست شيئاً مضافاً أو شيئاً يصنعه الإنسان، إنما هي شيء مخلوق مع الإنسان.
تفسير كل نص ديني بما لا يناقض الكرامة أو ينتقص منها هو ما يدعو إليه الرفاعي، أن نفسّر كل النصوص الدينية بحيث لا تنتقص من الكرامة، كرامة أي إنسان لا بدّ أن تكون مصونةً بهذا التأويل، بمعنى أنه يدعو لأن تكون الكرامة الإنسانية بمثابة المعيار أو المرجعية، أو المقصد كما يقال في مقاصد الشريعة، الكرامة هي مقصد من مقاصد الشريعة، لا يجوز أن نقرأ نصاً دينياً ينتقص من هذه الكرامة ولا بدّ أن نحتفظ للجميع بهذه الكرامة.
من هنا فهو يدعو إلى إعادة قراءة فكرة البراءة والولاء، كل طائفة من الطوائف تقدّم البراءة من الطوائف الأخرى والولاء لطائفتها، أن ذلك يُفسد الأخلاق والكرامة لأنك حين تتبرّأ من الآخرين فأنت تتبرّأ من الكرامة أيضاً، تعتبر أن لا كرامة لهم وأن ليس هناك معيار ومرجعية إنسانية تُلزمك في التعامل معهم، فهم منتهَكون وتحلّ لك دماؤهم وأعراضهم، ويحلّ لك كل شيء مصون لديهم، في حين أن الكرامة الإنسانية تحفظ الوجود الإنساني، هي حصن، والدين يعطي التحصين للإنسان لأنه خليفة الله.
يقول الرفاعي إنه ما لم يتحسّس الإنسان صوت الله في داخله فلن يتخلّص من الاغتراب الوجودي، صوت الله تسمعه في داخلك، في ضميرك حين تراعي الإنسان بما هو إنسان وليس بما ينتمي إلى طائفتك، حين يراعي ضميرك الإنسان بما هو إنسان وليس بما هو من طائفتك حينها ستفعل الخير لهذا الإنسان بغضّ النظر عن أي تقييدٍ من التقييدات.
لقد ورثنا تركةً ثقيلة من علماء الكلام الذين يتحدّثون عن الدين وعن أسماء الله وصفات الله وعن المعتقدات، هؤلاء العلماء الذين يستخدمون الكلام لإنشاء علاقة بين الإنسان والله، هؤلاء أنشؤوا فرقاً كلامية، كانت كل فرقة تعتقد أنها ستنجو وحدَها والبقيّة في النار، كيف كان علماء الفِرق ينظرون إلى العلاقة بين الله والإنسان؟ كانت الصورة التي أمامهم هي صورة السيّد والعبد.
يلفتنا الرفاعي إلى أن هناك فرقاً بين العباد والعبيد، لو ذهبنا إلى المعجم نجد أن العباد هم قبائل من بطون عربية شتّى، اعتنقوا النصرانية وسكنوا الحيرة بالعراق، هؤلاء أطلقوا على أنفسهم لقب عباد ولم يقبلوا بلقب عبيد لأنهم كانوا يقولون إن العباد هم الذين يتنسّكون ويعتكفون ويقومون بالعبادات، وهذه الأفعال تحرّرهم، فهم ليسوا عبيداً، ومقابل العباد هم مَن ينتهكون ويمارسون الإباحية وأفعالاً تحطّ من كرامة الإنسان، فيرون أن كلمة عبيد لا تليق بالاستخدام وفضّلوا كلمة العباد.
«عبودية الإنسان لله عنوان حريته»، هذه العبارة تُقال دائماً، يذهب الرفاعي إلى أن هذه فكرة أوجدها ابن تيمية وتلقّفها المودودي وكذلك طبّقها سيّد قطب، أنهم ربطوا العبودية بفكرة الحرية بينما هو يذهب إلى ربط العبادة بفكرة الحرية.
الكرامة الإنسانية هي المعيار كما يقول كتاب «الدين والكرامة الإنسانية»، يُقاس كل دين بما يقدّمه في هذا المجال، إلى أيّ درجةٍ قدّم الإسلام للكرامة الإنسانية؟ إلى أيّ درجةٍ دعمها وثبّتها ودافع عنها؟ إلى أيّ درجة أنتج نصوصاً تحفظ هذه الكرامة؟ يُقاس الدين بهذا المعيار، بما دعا إليه وحقّقه من كرامة الإنسان وليس بما هو زمني واضطراري واستثنائي من دعوةٍ إلى قتل أو إلى حمل السيف أو إلى مواجهة واقعٍ يكون فيه الإنسان مهدداً في كرامته. ما سُمّي بآية السيف هي آية كانت تدافع عن كرامة مَن يوحّدون الله في ذلك الوقت وليست آية تنتهك الآخرين بل تثبّت الكرامة.
(سيرياهوم نيوز3-الاخبار9-11-2022)