عبدالحميد البجوقي
ليس كتاب “داخل خدر شهرزاد” ـ نحو إزاحة الستارة عن عالم الرواية ـ للناقد والباحث الأستاذ خالد البقالي القاسمي ـ منشورات مكتبة سلمى الثقافية 2025 ـ مجرد دراسة في الرواية العربية، بل هو مشروع نقدي متكامل يعيد مُساءلة الرواية من داخل أسئلتها الوجودية العميقة، الغربة، العدم، الهوية، الحلم، الزمن، والكتابة بوصفها تجربة عيش لا خطابًا تفسيرياً.. منذ صفحاته الأولى، يتضح أن القاسمي لا يقترب من الرواية بوصفها بنية سردية قابلة للتشريح المنهجي فقط، بل بوصفها فعل وجود، وأن النقد عنده ليس ممارسة فوقية، بل تفكير من داخل الجرح الروائي نفسه. يقول الكاتب في تقديم مُنجزه ص5 “تتوفر الرواية على قدرة فائقة على إبراز الجنوح إلى التماهي مع الممكن والمُتخيل، مع الفرد والجماعة، ومع العقل والنفس.”
يأتي فهرس الكتاب كخريطة دلالية دقيقة لهذا المشروع؛ إذ تتوزع فصوله بين محاور كبرى من قبيل الرواية والغربة، الرواية والعدم، الرواية والمرأة، الرواية والذاكرة والتاريخ،الرواية واللون والحلم والهوية، ثم المكان والزمن بوصفهما فضاءين متوترين للكتابة…
سأكتفي في هذه القراءة الأولى بالتركيز على فصل “الرواية والغربة” ولو أنني أفضل مصطلح “المنفى” بدل “الغربة” في التعبير عن الحالة. مُجاورة هذا الفصل لفصل يحمل عنوان ” ثقافة الجدور” لم يكن في تقديري اعتباطا أو صدفة، بل تنتظم في نسق فكري واحد، يجعل من الغربة محورًا أنطولوجيًا جامعًا، تتفرع عنه بقية الأسئلة. الغربة هنا ليست تيمة سردية أو إحساسًا نفسيًا عابرًا، بل شرطًا كينونيًا يؤسس لفعل الحكي ذاته، ويمنح الرواية معناها بوصفها محاولة دائمة للعودة من العدم، أو النجاة المؤقتة منه.
يُمارس القاسمي نقده هنا من داخل التجربة، لا من خارجها؛ فهو لا يبحث عن خلاصات جاهزة، ولا عن تصنيفات مُريحة، بل يرافق النصوص في توترها، ويحاسبها بمعيارها الأخلاقي والجمالي معًا. لذلك لا يتردد في مساءلة الرواية حين تُفرغ الغربة من بعدها المركب، أو حين تتحول الأحلام إلى طموحات فردية ضيقة، فيتحول السرد من كشف وجودي إلى تبسيط سردي.
ما يمنح هذا العمل قيمته الإضافية ـ في تقديري ـ هو أن لغته النقدية نفسها تنخرط في الرهان الذي تطرحه، لغة تبدو مترددة، مشدودة إلى السؤال، ترفض الادعاء، وتكتب النقد بوصفه إبداعًا ثانيًا لا ظلًا باهتًا للنصوص المقروءة. هكذا يصبح الكتاب شهادة على إمكانية نقد عربي معاصر، لا يكتفي بالتحليل، بل يغامر بالتفكير، ويجعل من القراءة تجربة وجودية موازية لتجربة الرواية.
“داخل خدر شهرزاد” عنوان يوحي بإبداع روائي يعطي للكتاب وهجا وجاذبية تغري بالقراءة، هذا الكتاب في تقديري إضافة نوعية للمكتبة النقدية العربية، ليس فقط بما يقدمه من قراءات عميقة ومتنوعة، بل بما يقترحه من تصور جديد للنقد. نقد لا يشرح بقدر ما يفكّر، ولا يُطمئن بقدر ما يوقظ، ويُعيد الاعتبار للرواية بوصفها سؤالًا مفتوحًا على المعنى والعدم معًا.
في الفصل الذي خصصه الأستاذ خالد البقالي القاسمي للرواية والغربة وثقافة الجدور ص35، 36، 37، 38، 39 والذي استوقفني بحكم تجربتي الحياتية والأدبية كروائي، لا نكون إزاء “شرح” دقيق لمفهوم الغربة فقط، بقدر ما نكون أمام تفكير بها ومن داخلها؛ تفكير يجعل من النقد ذاته تجربة وجودية موازية لتجربة الرواية التي يقرأها، لا خطابًا فوقيًا يحاكمها أو يختزلها في نتائج جاهزة.
أبرز ما يلمع في هذا الفصل ـ في تقديري ـ هو نقل الغربة من حيّز الموضوع إلى حيّز الوجود. القاسمي لم يتعامل مع الغربة كدلالة اجتماعية أو نفسية فحسب، بل كشرط كينوني يتأسس عليه الفعل الروائي ذاته. لذلك يربطها منذ البداية بـ«العدم»، لا باعتباره نقيض الوجود، بل باعتباره منبعه الملتبس “كيف نعيش عندما نعود من العدم؟ وكيف نكتب انطلاقًا من هذا العدم؟”
هنا تتبدّى حساسية فلسفية عميقة، تستثمر الإرث الفينومينولوجي لا على مستوى الإحالة النظرية، بل على مستوى طريقة النظر. الرواية هنا وكما يُلمِّحُ الأستاذ القاسمي ليست حكاية عن الحياة، بل محاولة للنجاة منها، والكتابة في ومن الغربة، ليست تعبيرًا، بل فعل عودة مرتبك من هوة الوجود.
من “الإحساس بالضياع” إلى “توثيق للضياع” هكذا يرى الأستاذ البقالي القاسمي الرواية والغربة، ويربطها بثقافة الجدور. هذا الفصل بالخصوص يحقق انزياحًا نقديًا بالغ الذكاء حين يُميّز بين الغربة كإحساس، والغربة ككتابة. الغربة الروائية ليست شكوى ولا نواحًا، بل أرشفة دقيقة للفقد والتشظي والإحساس بالضياع، إنها، كما يقول القاسمي، توثيق للضياع لا بهدف تجاوزه، بل بهدف منحه شكلًا سرديًا يقيه من التبديد.
هنا يضعُ القاسمي الأصبع على الجرح ويُتقن تشريح الكتابة الروائية في ومن المنفى أو الغربة على حد تصنيفه، هنا تصبح الرواية فعل مقاومة هادئة، مقاومة النسيان، مقاومة التفاهة اليومية، ومقاومة الحاضر الذي يفرض نفسه بوصفه الزمن الوحيد الممكن.
يلتقط القاسمي بمهارة العلاقة بين الغربة واستباق المستقبل، فالشخصيات الغريبة لا تعيش الحاضر، لأنها مشدودة إلى أحلام لم تتحقق بعد، أو إلى ماضٍ لم يُستكمل.
الفقرة المُظللة في النص تُمثل ـ في نظري ـ ذروة أخلاقية ومعرفية في القراءة النقدية. هنا لا يُجامل القاسمي رواية الغربة ـ ويتحاشى ربما عن قصد كلمة “المنفى” ، بل يحاكمها بمعيار الغربة نفسها.، الغربة حين تتحول فيها الأحلام إلى طموحات شخصية ضيقة، أوحين تفقد الغربة بُعدها المركّب، وتسقط الرواية في فخ التبسيط.
لكن عظمة هذا النقد تكمن في أنه لا يُدين من الخارج؛ بل يكشف المفارقة من داخل منطقها، “رواية الغربة” عند خالد البقالي لا تخون الغربة إلا حين تتوهم امتلاكها، والروائي لا يفقد عريه إلا حين يظن أنه وحده من يمتلك “الحلول”
هنا تأتي الجملة القاسية والجميلة معًا:
“يكتشف الروائيون في هذه الحالة أنهم لا يملكون إلا عريهم..”. ص37
إنها جملة تُلخّص رؤية كاملة للأدب، تعني أن الكتابة ليست سلطة، بل انكشاف، أو بالأحرى ” كشفُ عورة”
يتجاوز هذا الفصل بالخصوص النزعة الفردانية في قراءة الغربة، لينتهي إلى أفق وجودي قاتم، لكنه صادق حين يجزم بصراحة أن الغربة حين تُساء كتابتها لا تُنتج وعيًا، بل تراكمًا للألم، وحين يعجز الروائي عن تفكيكها، تتحول إلى قوة سلبية تدفع الجميع نحو اليأس والإحباط والعدم.
هنا يلامس القاسمي تخوم النقد الثقافي، دون أن يقع في المباشرة أو الخطابية. الرواية بالنسبة له ليست بريئة، وهي مسؤولة – أخلاقيًا وجماليًا – عن الطريقة التي تصوغ بها الألم.
ربما أجمل ما في هذا النص أن لغته تُشبه فكرته. الجُمل ليست تقريرية، بل متوترة، مترددة أحيانًا، كما لو أنها تكتب نفسها على حافة السؤال. وهذا ما يجعل النص النقدي نفسه نصًا يعاني من “الغُربة أو النفي” بالمعنى النبيل للكلمة، نص لا يطمئن إلى خلاص، ولا يدّعي امتلاك الحقيقة، بل يترك القارئ في حالة تفكير قلِق ومنتج.
تقديري المتواضع أن الأستاذ خالد البقالي القاسمي أنجز في هذا الإصدار البديع نقدًا يفكر ولا يشرح، يسائل ولا يعلّق، ويغامر بدل أن يُطمئن. نصه لا يضيف معرفة عن الرواية والغربة بقدر ما يعيدنا إلى شرطها الأول، الهشاشة، واللايقين، والكتابة بوصفها محاولة مُستحيلة لكنها ضرورية للنجاة من العدم.
يدعو الكاتب في هذا العمل بجرأة ووضوح إلى قراءة تليق بالرواية حين تكون فعل وجود، وتليق بالنقد حين يكون إبداعًا ثانيًا لا ظلًا باهتًا للأدب، وفي هذا أبدع ويُبدع الأستاذ خالد البقالي القاسمي.
اخبار سورية الوطن 2_وكالات _راي اليوم
syriahomenews أخبار سورية الوطن
