صلاح الدين ياسين
يمكن تصنيف هذا الكتاب في خانة أدبيات “ما بعد الحداثة” من حيث هو اتجاه فكري ظَهَرَ في الغرب إبان منتصف القرن الماضي، يُعنى بنقد مآلات وصيرورة الحداثة الغربية، التي استحالت إلى تضخم مفرط للنزعة المادية والاستهلاكية، ومن ثم تشييئ الإنسان وتسليعه عوض العمل على تحريره وصون كرامته، وهو ما يعبر عنه الفيلسوف الكندي المعاصر آلان دونو في كتابه الملفت هذا ب “نظام التفاهة”، الذي يُعرفه بحسبانه “النظام الاجتماعي الذي تسيطر فيه طبقة الأشخاص التافهين على جميع مناحي الحياة، وبموجبه تتم مكافأة الرداءة والتفاهة عوضا عن العمل الجاد والملتزم”.
من الحرفة إلى الوظيفة
يشير مؤلف الكتاب إلى التحول الذي طرأ على تَمَثلنا لمفهوم وجوهر العمل بحكم سيادة منطق الرأسمالية المتوحشة، التي أحالت البشر إلى مجرد آلات مسخرة لتحقيق فائض الإنتاج اللازم لاستمرار المنظومة الاقتصادية، بحيث جرى الانتقال – في هذا الصدد – من الحرفة craft التي تفيد الشغف والتخصص والخلق، إلى الوظيفة job بوصفها مجرد وسيلة لتوفير قوت العامل مما يصب في صالح نمو الرأسمال. وهكذا فلا عجب إنْ رأينا – على سبيل المثال لا الحصر – بائع صحف وكتب لا يكلف نفسه عناء قراءتها، فهي لا تعدو كونها مصدر دخل ورزق بالنسبة إليه.
وفي نفس المنحى، يبين الكاتب كيف تحولت النقود من مجرد وسيلة لسد حاجات معينة إلى غاية بحد ذاتها، إذ أضحى الشغل الشاغل للبشرية في ظل عصر التفاهة اللهاث وراء النقود مهما تكن الوسيلة المتبعة في ذلك: “تبدأ المشكلات عندما نتوقف عن النظر إلى النقود كوسيط للقيمة، فنبدأ في التصرف وكأنها تتضمن قيمة أو كأنها هي في حد ذاتها قيمة”.
من المثقف إلى الخبير
يسلط الفيلسوف الكندي الضوء على حقيقة صادمة مفادها أن الفضاءات التي من المفترض أن تُصنف في خانة مضادات الرداءة، وفي مقدمتها الجامعة، أمست لبنة أساسية في تثبيت نظام التفاهة الذي يضيق الخناق علينا. فبدل أن تضطلع الجامعات بأدوارها التنويرية، وتفرز لنا مثقفين نقديين يشتبكون فكريًا مع القضايا والأسئلة المجتمعية الملحة، أصبحت الجامعات مرتعا لما يُسمى ب “الخبراء” أو “أشباه الخبراء”، الذين لا يألون جهدًا في إضفاء الشرعية على النخب الاقتصادية المهيمنة والتعمية على تجاوزاتها. فالخبير، مثلما يشدد على ذلك إدوارد سعيد، يُدفع له لكي يفكر بطريقة معينة. وبالتالي فلا غرو أن نجده يشكك في ظاهرة التغير المناخي الناجمة أساسا عن الصناعات الرأسمالية الملوثة، أو حين ينكر المضار الصحية الناجمة عن تدخين التبغ وما شاكله من منتجات وسلع السوق.
إن نظام التفاهة يعني انسحاب التفكير العميق والنظرة المتمعنة إلى الأشياء، وبالتبعة إفساح المجال أمام تغول النزعة التقنية ذات الطابع التبسيطي والتنميطي، الذي تكرسه القواعد والأعراف الأكاديمية المرعية. فإلى جانب مثال الخبير، يتخرج من الجامعات سنويا ما يدعوه الكاتب ب “الأمي ثانويا”، وهو شخص متمكن من المعارف التقنية والعملية، لكنه فارغ فكريًا وإيديولوجيًا، عاجز عن التعاطي مع الإشكالات الفلسفية والنظرية المتصفة بالعمق وكثافة المعنى.
كما يتجسد إذعان الجامعات العالمية لمنطق السوق – بما فيها تلك التي توصف بالعريقة -في تبنيها لنموذج “الحكامة” ومسلمات النظام الرأسمالي. فحتى المعايير المعتمَدة في تصنيف المؤسسات الجامعية لم تعد تختلف جذريا عن مؤشرات القياس والتصنيف المتبناة في الاقتصاد، وهو ما يتجلى، على سبيل المثال، في تغليب الكم على الكيف (الإفراط في تقدير أعداد الأوراق العلمية المنشورة)، فضلا عن إدماج معايير متصلة بمجال الدعاية والتسويق (الحضور الإعلامي للجامعة، الشراكة مع القطاع الخاص… إلخ). بل إن بعض الجامعات أمست كيانات مالية واقتصادية قائمة بذاتها، إذ لا تتورع في استثمار أموال موظفيها في الجنان الضريبية والصناعات الملوثة للبيئة.
عالم التجارة والاقتصاد: القلب النابض للتفاهة
يفند “آلان دونو” مسلمات النظرية الكلاسيكية في الاقتصاد الرأسمالي، التي تفيد بأن السوق تحركها اعتبارات عقلانية مضبوطة، إذ يستشهد بالعواقب غير المحسوبة والخارجة عن سيطرتنا التي تسببها الخوارزميات وغيرها من تقنيات الذكاء الاصطناعي. كما يعري المؤلف زيف نظرية “التقاطر إلى الأسفل”، التي تفيد بأنه في حالة ما إذا أصبح الأشخاص الأثرياء أكثر ثراءً، فإن الثراء سرعان ما يتقاطر إلى الفئات الاجتماعية محدودة الدخل. فبالرغم من أن الواقع كذب تلك النظرية، إلا أن افتراضاتها ما تزال تلقى صدى لدى “أشباه الخبراء”، الذين يذودون عنها بشراسة أمام شاشات الإعلام.
ومما يزيد الطين بلة أن القوى والجماعات التي يُفترض أن تشكل ثقلا مضادا لسطوة الرأسمال جرى تدجينها وترويضها، الشيء الذي يصدق على النقابات التي أمست مهادنة للشركات متعددة الجنسية، بينما تحول الكثير من قيادات التنظيمات النقابية بأنفسهم إلى حملة أسهم ومستثمرين. وينسحب ما قيل عن النقابات على الأحزاب اليسارية التي ما عادت تستميت في الدفاع عن العدالة الاجتماعية ودولة الرفاه.
كيف تم تحويل الفن والثقافة إلى صناعة؟
لم ينجُ المجال الفني والثقافي بدوره من سيطرة التافهين أصحاب الذوق الهابط، على حين أضحت الأعمال الفنية والثقافية الرصينة التي تحترم ذائقة المتلقي عملة نادرة. ولعل ذلك يُعزى ذلك، أساسًا، إلى هيمنة منطق السوق الاقتصادية على الصناعة الفنية، إذ يتم، في الأغلب الأعم، تسخير الفن لتمرير الرسائل المراد تلقينها وإشباع الميول السائدة لاستدامة النظام الرأسمالي، في ضوء ملكية (بكسر الميم) الأثرياء لوسائل الإعلام واستحواذهم على سوق الإعلانات.
ما العمل للإطاحة بنظام التفاهة؟
ينتهي آلان دونو إلى أننا نعيش في ظل “أوليغارشية” (حكم الأقلية)، أو بالأحرى “بلوتوقراطية” (حكم الأثرياء)، وليس في كنف نظام ديمقراطي يستوعب كافة التوجهات والمصالح، بحيث أفاض المؤلف في الحديث عن واقع تضخم نفوذ الشركات العالمية والمنظمات غير الحكومية التي تنهب موارد دول الجنوب، من طريق توظيف مصطلحات فضفاضة مثل “الحوكمة”، الأمر الذي يفضي إلى إفراغ سلطات الحكومات والبرلمانات المنتخَبة من محتواها، إذ تصبح هذه الأخيرة مجرد واجهة للتمويه على الوضع القائم. وفي تقدير الفيلسوف الكندي، فإن السبيل للإطاحة بنظام التفاهة لا يمكن أن يتم إلا بكيفية جماعية أو ما يصفه ب “القطيعة الجمعية”، مع ما يستلزمه ذلك من طرق تفكير إبداعية لإنهاء وجود المؤسسات والقواعد التي تضر بالصالح العام.
(سيرياهوم نيوز ١-السوسيولوجيا العالمية)