حسني محلي
تحت الضغوط والتهديدات التركية بشنّ الحرب ضد دمشق بحجة أنها تؤوي زعيم حزب العمال الكردستاني عبّد الله أوجلان، اضطر الأخير إلى مغادرة سوريا في 9 أكتوبر/ تشرين الأول 1998، ووقّع الطرفان التركي والسوري في 20 أكتوبر/تشرين الأول على اتفاقية أضنة للتعاون الأمني التي حدّدت إطار التنسيق المشترك ضد “إرهاب” العمال الكردستاني الذي أسّسه أوجلان عام 1978.
واتهمت أنقرة بعد ذلك دمشق وبغداد، وأحياناً طهران، بدعم الكردستاني في وقت كانت هذه العواصم تشهد مشكلات مع مواطنيها الكرد الذين كانوا يحظون بدعم وتحريض واشنطن والعواصم الغربية، تارةً في العلن، وفي معظم الأحيان، سراً.
وشهدت علاقات أنقرة بجاراتها، وهذه الجارات مع مواطنيها الكرد حالات من الفتور والتوتر، وأحياناً مواجهات مسلحة، كما كان عليه الوضع منذ أكثر من خمسين سنة في تركيا والعراق، وفي سنوات “الربيع العربي” في سوريا التي دفعت تطوراتها الأخيرة الرئيس إردوغان إلى مصالحة زعيم حزب العمال الكردستاني عبّد الله أوجلان الذي ناشد في 27 شباط/ فبراير الماضي الحزب إلى وقف العمل المسلّح وحلّ نفسه.
وهو ما أعلنت عنه قيادات الحزب في المؤتمر الذي عقدته في 12 أيار/ مايو الماضي بعد سلسلة من المشاورات والمساومات التي جرت بين أوجلان وقيادات حزب المساواة وديمقراطية الشعوب، الجناح السياسي للعمال الكردستاني.
والتقت هذه القيادات خلال الأسابيع الماضية مع قيادات الكرد في العراق وسوريا، وبعلم واشنطن التي شجعت كل الأطراف على مثل هذه المصالحة التي بدأت في أكتوبر/ تشرين الأول 2024، أي قبل سقوط النظام في دمشق بمئة يوم تقريباً.
ويفسر ذلك الاستعدادات والتحضيرات التركية-الأميركية المسبقة للمرحلة الجديدة التي تتطلب مصالحة تركية – كردية، وبالتالي سورية –كردية، وأخيراً كردية-إقليمية بضمّ الكرد في العراق إلى هذا المخطط الإقليمي الجديد.
وهذا ما أشار إليه الرئيس إردوغان في خطابه السبت 12 تموز/ يوليو بمناسبة إلقاء عناصر الكردستاني السلاح، إذ قال “إن قضية الكرد في سوريا والعراق وتركيا هي قضيتنا، وأننا سنبذل كل ما في وسعنا لمعالجتها في إطار الأخوة التركية –الكردية-العربية “.
خطاب الرئيس إردوغان ومن قبله بيوم الحفل الاستعراضي لثلاثين من عناصر العمال الكردستاني الذين أحرقوا أسلحتهم على سفوح جبال قنديل، شمال العراق، حيث معقل قيادات الحزب، سيفتح صفحة جديدة في المعادلات المثيرة، تركياً وإقليمياً، بعد أن بات واضحاً أن واشنطن تدعم كل هذه التحركات بعد إسقاط النظام في سوريا.
وكان جمع الجنرالات الأميركيون أحمد الشرع بمظلوم عبدي في دمشق 10 مارس/ آذار ليتكرر اللقاء بحضور توماس باراك، المبعوث الأميركي إلى سوريا ولبنان 10 تموز /يوليو.
تناقضت تصريحات باراك بشأن أهداف “قسد” والكرد في سوريا إقامة نظام فدرالي اعترض عليه الرئيس إردوغان بعد أن أقنع واشنطن بضرورة تسليمه الملف الكردي برمّته كي يتسنى له معالجة هذا الملف، سورياً وعراقياً، وقبل ذلك تركياً.
فأميركا التي اختطفت عبد الله أوجلان من العاصمة الكينية نيروبي وسلّمته لتركيا في 14 شباط/ فبراير 1999، وبعد سلسلة من التناقضات في مواقفها حيال المشكلة الكردية؛ إذ دعمت العمال الكردستاني كما دعمت وحدات حماية الشعب الكردية، وقبل ذلك عائلة البرزاني في العراق، يبدو أنها الآن تبحث عن صيغة ما لإنهاء هذه المشكلة في إطار مشروع إقليمي كبير يخدم الكيان الصهيوني فقط.
واستغل الرئيس إردوغان هذا الموقف الأميركي الجديد، خصوصاً بعد أن عيّن الرئيس ترامب ملك العقارات الأميركي توم باراك سفيراً له في أنقرة، فأطلق مبادرته في المصالحة مع زعيم العمال الكردستاني عبد الله أوجلان الذي سمحت له السلطات التركية 10 تموز/ يوليو ليخاطب الكرد بالصوت والصورة (فيديو) لأول مرة منذ 26 عاماً من سجنه.
وتتوقع الأوساط الكردية أن يخرج أوجلان قريباً من السجن، ليصبح زعيماً للحزب الجديد الذي سيتم الإعلان عنه بعد أن تمّ حلّ حزب العمال الكردستاني، مع توقعات لحزب المساواة وديمقراطية الشعوب أن يتّحد مع الحزب الجديد بزعامة عبد الله أوجلان ليكون لهذا الحزب 56 مقعداً في البرلمان التركي من أصل 600 مقعد.
وسيساعد كل ذلك الرئيس إردوغان في تحقيق أهدافه الداخلية بعد الإقليمية، إذ سينجح في إبعاد الكرد عن الشعب الجمهوري، وهو ما أشار إليه في خطاب السبت حيث قال “سنعمل معاً بعد الآن نحن (يقصد الإسلاميين) وحزب الحركة القومية (يقصد القوميين) وحزب المساواة وحرية الشعوب (يقصد الكرد)”.
وسيكون هذا العمل المشترك، إن تحقق، كافياً بالنسبة إلى الرئيس إردوغان أولاً لصوغ دستور جديد وفق مزاجه العقائدي، أي الإسلامي، وبالتالي ضمان تكرار انتخابه من جديد رئيساً للجمهورية لدورات إضافية، وهو ما يمنعه الدستور الحالي.
لتكون المرحلة التالية في حكمه للبلاد بعد التخلص من المعارضة، أي الشعب الجمهوري ومرشحه للرئاسة أكرم إمام أوغلو، فرصته الجديدة لأسلمة الدولة والأمة التركية بشكل نهائي، وسيساعد ذلك أنقرة في لعب دور أكبر في إعادة ترتيب أمور المنطقة وفق المزاج الأميركي، الذي أوصل الإسلاميين المتطرفين إلى السلطة في دمشق وفرض عليهم أمرين أساسيين:
أولاً، المصالحة باسم الإسلام مع اليهودي نتنياهو وعصابته الإجرامية في حكومة الائتلاف.
وثانياً، الاتفاق مع الكرد بأي صيغة كانت، وبوصاية تركية تحدث عنها إردوغان بشكل غير مباشر بعد الانسجام الأخير بينه وبين عبد الله أوجلان والقيادات الكردية في العراق ووحدات حماية الشعب الكردية، الذراع السورية للعمال الكردستاني التركي بعقيدته العلمانية.
وتحظى بدعم الأوساط الغربية التي ترى فيها عنصر توازن مع الإسلاميين في سوريا وتركيا، وبغياب الاهتمام الأميركي والأوروبي “المؤقت” بالعلويين وعددهم في تركيا ليس أقل من 15 مليون وفي سوريا نحو 3 مليون.
ومن دون أن نتجاهل السيناريوهات التي تكتب في دهاليز السياسة الغربية بامتداداتها الإقليمية، والتي تتحدث عن العودة إلى أحاديث الاستعداء الطائفي في المنطقة، كما كان عليه الوضع في بدايات ما يسمى بـ”الربيع العربي” في سوريا.
وبات واضحاً انها ستتحوّل إلى بؤرة ساخنة للسيناريوهات المستقبلية بعد الاعتراف لأنقرة بدور رئيسي مواز لدور الكيان العبري، سورياً وإقليمياً، وهدفها سيبقى كالعادة إيران ومن تبقى لها من الحلفاء في اليمن والعراق والأهم لبنان، جار سوريا والكيان العبري، كما يقع قبالة قبرص التي تحظى باهتمام اليهود منذ عهد السلطان العثماني سليمان القانوني قبل 500 عام، وما زالت ضمن مشاريعهم ومخططاتهم الدينية والأسطورية التي يسعى الرئيس ترامب لفرضها على حكام دول المنطقة، وهمّهم الوحيد هو البقاء في السلطة ومهما كلّف ذلك دولهم وشعوبهم وشعوب المنطقة برمتها، كما هي الحال مع الكرد الذين كانوا وما زالوا ورقة رابحة للمساومة بها منذ أكثر من مئة عام، وقد تكون لمئة عام أخرى!
(اخبار سوريا الوطن ١-الميادين)