بقلم: ميرفت أحمد علي
يتمدَّدُ الوطنُ على زُنودِنا اليومَ، ناشداً (سهوةً) لا غفوةً، فالوطنُ يسهُو و لا يغفُو، كيما يكلأَنا بعينِ الرحمةِ و التَّحنانِ في أمقتِ المحنِ، في أحلكِ الخُطوبِ و أعصبِ الحِدْثانِ، و في أشدِّ الرضوضِ القدريَّةِ إيلاماً و تنكيلاً، و التي نالهُ و نالَنا منها الكثيرُ المريرُ. و حينَ يتمدَّدُ الوطنُ؛ نمدُّ لهُ الزِّندَ بضَّةً على طُولها، فلا نَستعتبهُ على تقصيرٍ، و لا نَستلومهُ على تلكُّؤٍ، و لا نستزرعُ كمَداً في نفوسِنا حيالَهُ… لأنّهُ ــ بحقٍّ ــ قدْ آلَ اليومَ إلى تجَلٍّ فظٍّ للثَّكالةِ المُؤسيةِ، و تمَظْهُرٍ حادٍّ للفجيعةِ المُستضبعةِ، معَ كلِّ تلكَ الانهماراتِ و التَّهطالاتِ لفصولِ المأساةِ السوريةِ المعاصرةِ، و ميلوديَّتها البئيسةِ. يتمدَّدُ الوطنُ على صدورِنا، حَيِيَّاً، مُرتبكاً، ربَّما مِن تبادلِ الأدوارِ. و لأنَّ الوطنَ كليمٌ، فإنَّنا نعبُّ مِن رِئاتِنا أنفاساً عميقةً، و ننفخُ صدورَنا بمنفخِ الصبرِ و التبتُّلِ و الضَّراعةِ؛ كيما ينامَ الوطنُ قريرَ العينِ راغِدَها، سابلَ الرِّمشِ و الهُدبِ…و لأوَّلِ مرةٍ، على صدورِ أبنائهِ العابَّةِ من أنفاسِ الجلَدِ و المُكابرة، و المُكابدةِ و المُصابرة. يتمدَّدُ الوطنُ كطفلٍ مُضنىً بينَ شراييننا، فلا يَعدمُ لهُ مِخدَّةً و لا مِسندَ رأسٍ أثقلتْها الهمومُ بينَ أَبهرِنا ووريدِنا، و لو اضّطرَّنا الأمرُ إلى اقتلاعِهما مِن شُروشِهما، و معَهما شجرةُ أنسابِ الشرايينِ و الأوردةِ و العُصبوناتِ و الأصِمَّةِ…كيما يستقرَّ رأسُ الوطنِ المتعبِ، و ينامَ ـــ و لو بعيونٍ مفتوحةٍ كالسمكِ ــــ لأنَّ الوطنَ لا ينامُ…و يضنُّ على نفسهِ حتى بفُسحةِ قيلولةٍ. نحنُ فقط، بعضُ أبناءٍ عقَقَةٍ، مَن نظنُّ أنَّ الأوطانَ تنامُ! و قدَرُ الوطنِ أن ينامَ اليومَ على الصُّدورِ و الأذرُعِ، في الحشايا و الضلوعِ و الحنايا و الخَوافقِ، في مُكوثاتٍ قد تستطيلُ و تمتدُّ، و قد لا… و قدَرُنا أن ننشدَّ إليهِ (بكلِّ مُغارِ الفَتْلِ) على حدِّ تعبيرِ امرئِ القيس، فإذا أغوَتْنا الأوطانُ البديلةُ بالفطامِ عنهُ، و لوّحَ هديرُ الطائراتِ بالأرغَدِ و بالأبهجِ ، بالأحنِّ و بالأمَنِّ؛ عُدْنا و ارتميْنا في أحضانهِ المتعبةِ، و كأنَّما يجذبُنا إليهِ حقلُ نبضاتٍ و تَذبذُباتٍ مغناطيسيةٍ، لا تعرفُ تسميةً لها أَسخى منَ : الحب. مِنْ ثمَّ آليْنا على أنفسِنا ألَّا ندعَهُ معَ قبورِ الأوَّلينَ و الأحبَّاءِ مُختلياً في محرابِ حُزنهِ و ابتئاسهِ و كَدَرِه.. وحيداً، منسيَّاً، و كأنَّنا ما كنَّا يوماً منهُ، و لا كانَ نحنُ. زاويةُ الثلاثاءِ، أعودُ أدراجي بها اليومَ إلى ذكرى إشهارِ صحيفةِ (الوطن) بحُلَّتِها الورقيَّةِ، و قد أُطلقتْ كمشروعٍ إعلاميٍّ (صفْويٍّ)، أيْ يضمُّ صفوةَ الناسِ و نُخبويِّيهم، بعد أنْ تهيَّأتْ للمشروعِ و لمُطلقيهِ الأفذاذِ النُّجباءِ كلُّ أسبابِ الامتيازِ و الاستحواذِ على قبولِ القارئِ، و كسبِ ثقتهِ حتى يومِ الناسِ هذا. كانتِ الأفكارُ التوَجُّهيَّةُ ــ و ماتزالُ ــ منفتحةً على هوامشَ فكريةٍ و رقابيَّةٍ فضفاضةٍ ، و رُؤىً مُغايرةٍ و مُنافسةٍ، محرِّضةٍ على الكتابةِ و التلقِّي و المُحاججةِ؛ فأقبلَ على الصحيفةِ الرَّاسخونَ في العملِ الثقافيٍّ و الإعلاميٍّ، و قد أطلقوا أخيراً تنهيدةَ الراحةِ و الانشراحِ، مستظلّينَ بمؤسسةٍ شريفةٍ تخاطبُ الرأيَ العامَّ السوريَّ و مواطِنَهُ مخاطبةً نِدِّيَّةً، محترمةً المسافةَ البينيَّةَ المفسوحةَ ما بينَها و بينهُ، و ملتزمةً بشواغلِ فكرِ القارئِ، تستقطبُ الآراءَ المُتباينةَ، و تلمُّ شَتاتَ الأقلامِ القصيَّةِ، و المُغيَّبةِ، و المهمَّشةِ منذُ زمنٍ؛ لتتجلَّى (الوطنُ) كموطنِ فكرٍ و فنٍّ و أداءٍ مُتناغمٍ معَ الذاتِ و الآخرِ، معَ الواقعيِّ و المأمولِ ، محاولةً ردمَ الهوَّةِ بينَ الضفَّتينِ ما استطاعتْ إلى ذلكَ دأْباً. و هذا الالتزامُ لم يكُ ليُقيِّدَ انفساحَ الرؤى، أو ليُصادرَ رحابةَ الرَّأيِ، أو لينفيَ قبولَ الفكرِ المُضادِّ، بلْ إنَّها وطنُ (الكُلِّ للكُلّ).و اليومَ إذْ أسترجعُ هذهِ الذكرى، و كأنَّما هيَ بنتُ البارحة أو الأمسِ القريبِ، تحضرُني ذكرى ذلكَ الاتصالِ الهاتفيِّ الذي أجراهُ معي الإعلاميُّ المرحوم (محمد حسين)، و قد أفادَ بموجبهِ أنَّني مدعوَّةٌ إلى حضورِ حفلِ إطلاقِ جريدةٍ نوعيَّةٍ مستقلةٍ خاصةٍ تُدعى (الوطن)، و قد أُوكلتْ إليهِ مهمَّةُ دعوتي إلى حضورِ الحفلِ معَ كوكبةٍ من رجالاتِ الإعلامِ و الفكرِ و الفنِّ و الرياضةِ و الثقافةِ، إضافةً إلى رجالِ الأعمالِ، و ممثّلي الفعاليَّاتِ الاقتصاديةِ الناشطةِ آنذاكَ. يومَها لبَّيتُ الدعوةَ مدفوعةً بحبِّ الفضولِ و الاستطلاعِ، و أنا أُسائلُ نفسي في تلكَ الأجواءِ الاحتفاليةِ الرَّائقةِ، المُستعذبةِ، المُستلطفةِ و الودودةِ، يتوِّجُها لقاءُ المبدعينَ في طرطوسَ و دمشق: ـــ و لكنْ، لماذا أنا؟ و ما عسايَ أفعلُ في هذهِ (الوطن)؟
بقيَ السؤالُ حبيساً في ثلاجةِ ماضٍ ليسَ بالقريبِ، و ذلكَ لحكمةٍ إلهية، أو رهناً بمحاسنِ الصُّدفِ البهيَّة، و اليومَ حظيتُ بتشريفِ الإضافةِ إلى قائمةِ الكتَّابِ في (أخبارِ سوريا الوطن)، بعد ثمانيْ عشرةَ جائزةً أدبيَّةً عربيةً و دولية، تأتي زاويةُ الثلاثاءِ لتُضيفَ إليها إنجازاً شخصيَّاً رافداً داعِماً، ما يميزُهُ أنَّه بطعمِ الوطنِ، و بنُكهةِ سوريا القلبِ و النُّخاعِ، وطنِ (السَّهوةِ) لا الغفوةِ و الغَفْلة، و النومِ بعيونٍ مفتوحةٍ على اتَّساعِها؛ تحسُّباً مِن غدراتِ الزمنِ، و مِن شرِّ البليَّةِ في الكونِ و البَريَّةِ، و مِن كلِّ ما و مَن أنهكَ سوريانا الحبيبةَ ــ ملكةَ عراقةِ الحضاراتِ ــ و أُسَّ النضالِ و أساسَهُ، ردْحاً مِن زمنٍ تثاقلَ فيهِ الهمُّ على الأفئدةِ حدَّ إنكارِ فضلِ الأمِّ على الأبناءِ، و الجَحْدِ و الخياناتِ بالجُملةِ و بالمفرَّق.اليومَ يفتحُ موقعُ (أخبارِ سوريا الوطن) ذراعيهِ، ليكونَ على تماسٍّ يوميٍّ بمُنجزنا الفكريِّ كمبدعينَ سوريّينَ ، لتَمكيثِنا في ذاكرةِ الوطنِ أكثرَ من ذي قبلٍ، و لجبرِ الخواطرِ و الأقلامِ المقصيَّةِ عن صياغةِ و تشكيلِ الحدثِ الإبداعيِّ، و لتحريرِ أصحابِ الإبداعاتِ الشريفةِ مِن رِبْقةِ الشِلليَّةِ و المحسوبيَّةِ، و الانزلاقِ في محَاظيرها، و لنكتبَ إقراراً مجازيَّاً عبر (أخبارِ سوريا الوطن) بانتمائِنا إلى وطنٍ فَردٍ لا بديلَ لهُ هو : سوريا، وطنِ المعجزاتِ و الخوارقِ، فيهِ نستزرعُ آدابَنا، و نستخصبُ ثقافتَنا، عابرينَ بالقلمِ و بالإيمانِ بذواتِنا المبدعةِ مِن ظلامةِ (النَّفقِ) إلى شموسِ (الأفقِ).المفارقةُ الغريبةُ ــ أيُّها الأعزَّاءُ ــ أنَّ إعلاميَّاً عزيزاً آخرَ ، و بعدَ مديدِ سنينٍ، فتحَ ـــــ مشكُوراً، و مِن حيثُ لا يدري ـــــ ثلَّاجةَ الماضي بالأمسِ القريبِ،
و حرَّرَ السؤالَ العالقَ في ذمَّةِ الماضي: (لماذا أنا؟)، و طرحَ عليَّ فكرةَ كتابةِ زاويةٍ أسبوعيةٍ في (أخبارِ سوريا الوطن)، في دعوةٍ أخويَّةٍ صادقةٍ للخروجِ مِن شرنقةِ العُزلةِ الثقافيةِ و الإعلاميةِ، على خلفيَّةِ الجوائزِ الأدبيةِ التي علا رصيدُها، بفضلِ اللهِ، و بمصابرةِ النفسِ على مشقَّةِ الكتابةِ، و إليهِ أقولُ: شكراً أستاذ (هيثم يحيى محمد) كلُّ ثلاثاءٍ ، جائزةٌ أدبيةٌ سورية، و مُعادلٌ حقيقيٌّ لانتعاشٍ متجدِّدٍ، و موعدٌ أسبوعيٌّ معقودٌ معَ مكاشفاتٍ ذاتيةٍ و موضوعيةٍ عندَ حُسنِ ظنِّكَ، و انهمارٌ وجدانيٌّ مُستفيضٌ، و خروجٌ لماءِ الروحِ نديَّاً سلسبيلاً في ثلاثاءِ (سيرياهوم نيوز)
(سيرياهوم نيوز١٨-١-٢٠٢٢)