آخر الأخبار
الرئيسية » جمال وموضة » كلوديا كاردينالي… آخر رموز نهضة السينما الإيطالية

كلوديا كاردينالي… آخر رموز نهضة السينما الإيطالية

 

شفيق طبارة

 

 

هناك مشهد رائع في فيلم «حدث ذات مرّة في الغرب» (1968)، يُحدّد مسيرة كلوديا كاردينالي (1938 – 2025). بينما كانت تودّع هارمونيكا (تشارلز برونسون)، تلوح نظرة عابرة في عينيها، تتخللها موسيقى إينو موريكوني.

 

رغم أنّ الحوار يستغرق ثوان قليلة، إلا أنّه حمل في طياته لمحةً من تاريخ السينما وتاريخ كاردينالي، على الأقل من النوع الذي صوّره سيرجيو ليوني. إذ إنّ الأخير صوّر عاشقين ينظران إلى بعضهما بتواطؤ، رغم إدراكهما باستحالة حبهما. تكمن قوة كليهما في قدرتهما على تحمّل هذا الفراق والحبّ من دون منجل الحنين أو الندم. تقول بينما تنظر في عينيه: «أتمنى أن تعود يوماً ما»، فيجيب وهو ينظر إلى الخارج: «يوماً ما».

 

جمال عصيّ على الفهم

هكذا، كنّا نعود دائماً إليها، إلى أفلامها، رغم أنّها كانت دائماً بعيدة المنال. جمالها يصعب فهمه. هي ما لا تبدو عليه بتاتاً، تخفي أكثر مما تكشف. لكنها كانت دائماً رشيقة، تقطر صراحةً وناراً ورحمةً. كانت مقدّسة، لا يمكن التحكم بها، ومن المستحيل امتلاكها أو قياسها أو تصنيفها.

كانت العيب في الصورة اللامعة، والغموض في السحر… أميرة، ثورية، حبيبة، أمّاً، حلماً، جسداً مراوغاً، حضوراً ملموساً. تجنبت السينما لمدة طويلة، كما أوضحت بنفسها، تماماً كما لا ينبغي للمرأة أن تستسلم بسرعة لتقدمات العشيق.

 

كانت كلّ شيء

عاشت كاردينالي كلّ حياة ممكنة، «عندما كنت صغيرة، كنت أرغب في الذهاب إلى كلّ مكان وأن أكون الجميع، وقد حققت ذلك من خلال عملي. المثير للاهتمام بالنسبة إلى الممثلة ليس فعل ما تريد، بل أن تكون شخصاً آخر. كنت شقراء، سمراء، أميرة، عاهرة، كنت كلّ شيء».

 

 

هكذا عاشت بينما حملت أفضل سنوات السينما الإيطالية بصمة جمالها وموهبتها، والجرأة التي دائماً ما ميّزت شخصيتها. كانت من آخر الناجين من ذلك المجد، كما قال لها آلان دولون (1935 – 2024) باكياً عندما حضرا عرض فيلم «الفهد» (1963، «The Leopard»)، للوتشينو فيسكونتي بنسخته التي أعاد مارتن سكورسيزي ترميمها خلال «مهرجان كان».

 

«نحن الوحيدون الذين بقوا على قيد الحياة. الجميع ماتوا». سبقها هو السنة الماضية، والآن انضمّت هي إلى حشد من الأسماء العظيمة التي تُخلّد ذكريات تلك السينما التي سنواصل مشاهدتها دائماً.

 

ولادة في تونس ونشأة متعددة الثقافات

بدأت كاردينالي رحلتها في السينما بالمصادفة تقريباً. ولدت في تونس، ونشأت في منزل متعدد الثقافات. كانت تتحدث الفرنسية في المنزل، وتعلّمت اللهجة التونسية في الشارع، وسمعت والدها يتحدث بلغة صقلية على مائدة العشاء.

 

كانت لديها مؤسسة

مخصصة لقضيتين: حقوق المرأة وحماية البيئة

 

 

الغريب أنّها لم تتعلم الإيطالية حتى بدأت التمثيل، وهو ما يفسّر لكنتها المميزة التي رافقتها طوال حياتها. حلمت الشابة بأن تصبح معلّمة، لكن في سنّ صغيرة، فازت بمسابقة «أجمل فتاة إيطالية في تونس»، التي تضمنت رحلة إلى «مهرجان البندقية السينمائي».

 

هناك لفتت أناقتها وعيناها اللوزيتان وقوامها المتوسطي، أنظار المنتجين. التقت بالمنتج فرانكو كريستالدي، من بين عدد ممّن خطبوا ودها، ففتح لها باب السينما، ثم تزوجته لاحقاً، بموجب عقد صارم ندمت عليه طوال حياتها. أدى جمالها الآسر إلى تآكل هيمنة شخصيات أخرى في عصرها، إذ جمعت الجاذبية الغامضة والنضارة المذهلة في كلّ ظهور لها.

 

اختيار دقيق وذكي للأدوار

كانت متمسّكة بجذورها الصقلية ولكنها امتلكت رقياً حاداً. عرفت كيفية اختيار أدوارها بعناية وذكاء، حتى في ظل عقد كريستالدي الأسدي الذي كان يتطلب عدداً من الأفلام سنوياً وأرباحاً قليلة. عملت مع العظماء من فيسكونتي إلى فيلليني وماريو مونيتشيلي، وماركو فيريري وماورو بولوجينيني وغيرهم الكثير، وفي فرنسا مع نجوم أمثال دولون، وجان بول بلموندو، تحت إشراف هنري فيرنويل، وأبيل غانس وخوسيه جيوفاني.

 

العمل مع العمالقة

بينما كانت ترتدي البيكيني الأخضر الزمردي اللون في البندقية، كانت تعتقد بأنّ تلك اللقطات القليلة من الكاميرات أشبه بلعبة. لكنّ تلك اللعبة صار لها اسم عندما صاغ فيلليني مصطلح «باباراتزي». ثم قدمها في فيلم «8½» (1963)، كأثيرية، معلّقة في الهواء، وعد بمستقبل أبدي، قادرة على تغيير العالم بمجرد وجودها، كصورة مثالية.

 

وبهذه الصورة، ودّعَ فيلليني آخر لحظات الواقعية القاسية ما بعد الحرب، وجسّد المعجزة الاقتصادية القادمة، المفعمة بالسحر والإثارة. في السنة نفسها، وقفت أمام كاميرا فيسكونتي. علّقت مرّةً على هذا التناقض الذي عاشته ذلك العام بين فيلليني في روما وفيسكونتي في صقلية، قائلةً: «مع فيسكونتي، لم يكن بالإمكان التحدث في موقع التصوير. مع فيديريكو، كان الجميع يصرخون، يتحدثون على الهاتف. كان هناك ضجيج كضجيج السيرك».

 

كانت دائماً تخاطر عند اختيار أدوارها، ولم تخش أبداً الانغماس في قصص معقّدة تحت أوامر المخرجين المتطلبين. فعلت ذلك مع ماركو فيريري في فيلم «جلسة الاستماع» (1972)، وهو نقد لاذع لدور الكنيسة في الثقافة الإيطالية. وتجرأت مرة أخرى على مغامرة غير عادية في Fitzcarraldo لفيرنر فيتزوغ، حيث كامت محاصرة بالأدغال وجنون كلاوس كينكسي.

 

وفي «الفهد»، رقصت مع الأمير ومع التاريخ، حيث تخبر كلّ خطوة عن الصعود والتنازل والجمال والقوة. وسارت بين المحطات والمقاعد في فيلم «الفتاة ذات الحقيبة» (1961)، حيث ظهرت هشّة وعنيدة، كأنّنا بها وجه إيطاليا التي تتعلّم كيف تكبر. وفي فيلم «يوم البومة» (1968)، كان نظرتها كلّ ما يمكن قوله ضد المافيا.

 

كانت دائمة قادرة على العمل في الأفلام الكوميدية الساخرة والتنقّل من فيلم «روفوفو» (1968 ــ ماربو مونيتشيللي)، إلى مقابلة بازوليني، أو عبور المحيط لنشر سحرها العالمي، في محطة فلاغستون في «حدث ذات مرة في الغرب»، عندما تكشف الكاميرا عنها في قلب ملحمة ذكورية بالكامل.

 

العودة إلى أرض الطفولة والعمل مع التوانسة

لكنّها كانت دائماً تعود إلى أرض طفولتها. كرّمتها المدينة بتسمية شارع باسمها، يقع في منطقة ميناء حلق الوادي. إنّه المكان نفسه الذي صوّرت فيه عام 1997 فيلم «صيف في حلق الوادي» للتونسي فريد بوغدير، الذي يدور حول صحوة غرامية لمجموعة من الأصدقاء عشية حرب الأيام الستة. وفي أحد أفلامها الأخيرة «جزيرة الغفران» (2022) للتونسي رضا الباهي، استحضرت قصة كاتب تونسي من أصل إيطالي، في إشارة واضحة إلى سيرتها الذاتية.

 

وحّدت إيطاليا وجمعتها

كانت إيطاليا في سنوات الازدهار الاقتصادي والاستهلاك، لا تزال شابة للغاية. لم يكن لديها سوى قرن من التاريخ. رغم أنها هزمت جحافل موسوليني، إلا أنها كانت لا تزال بحاجة إلى أرضية مشتركة للحفاظ على نفسها، لتجنّب تقطيع أوصالها.

 

في فترة لم يستطع فيها شخص من ميلانو فهم شخص من باري، أصبحت كاردينالي واحدة من تلك الروابط أو الحلقات التي توحّد بلداً كاملاً. ورغم أنها تعترف بمواقف حزينة في السينما تفضّل عدم تذكرها، فقد احتفظت إلى الأبد بجزء من نفسها، محفوظ في قلبها، لم ترغب أبداً في مشاركته.

 

كرّست حياتها بأكملها للسينما والإعلان والموضة، لكنها سعت دائماً إلى حماية نفسها، وعدم التخلي عن المشاعر والتعلق والرغبة. كما لو كانت بحاجة إلى الشعور، ولكن ليس إلى المعاناة.

 

تعرضت للاغتصاب في مراهقتها على يد منتج سينمائي، فحملت، واتخذت قراراً صعباً بتربية ابنها. عملت في السينما لكسب عيشها واستقلالها، «فعلت ذلك من أجله، من أجل باتريك، الطفل الذي أردت الاحتفاظ به رغم الظروف والفضيحة الفادحة». في السينما، كانت لديها مؤسسة مخصّصة لقضيتين: حقوق المرأة وحماية البيئة.

 

كانت كاردينالي خير ممثلة لنهضة السينما الإيطالية بعد الحرب العالمية الثانية في أعقاب الواقعية الجديدة الشهيرة. ومن بين الصالات الكثيرة التي تحتضنها ذاكرتنا السينمائية، تحتل كاردينالي مكانةً خاصة، ليس لأنها الأكثر بريقاً أو الأكثر صراحة، بل لأنها دخلت مخيلتنا الجماعية من الباب الخلفي للصالات، الباب الذي يفتح على الغموض لا الصخب.

 

وهناك بيت بيتها، في عمق صامت، وبنظرة تبقى حتى بعد انقضاء كلّ شيء. ستظل كلوديا كاردينالي تراقبنا من مكان ما، وستبقى مشاهدها تعود لتطاردنا كأضواء بين ستائر ما بعد الظهيرة.

 

 

 

أخبار سوريا الوطن١-الأخبار

x

‎قد يُعجبك أيضاً

رحلة تجديد البشرة بعد الصيف: من الوصفات المنزلية إلى أحدث الابتكارات العالمية

مع انتهاء موسم الصيف، تترك أشعة الشمس الحارقة والحرارة والتعرق وحتى المكياج ثقله على بشرتنا، لتبدو باهتة ومرهقة، وربما جافة أو بها بقع داكنة. لكن ...