علي عواد
أعلنت شركة «ميتا» يوم الإثنين الماضي، عن سماحها باستخدام نموذج الذكاء الاصطناعي (AI) المفتوح المصدر الخاص بها «لاما» للأغراض العسكرية والأمن القومي الأميركي، ما يمثّل تحوّلاً بالغ الأهمية في العلاقة بين وادي السيليكون وقطاع الدفاع. تأتي هذه الخطوة وسط مخاوف متزايدة بشأن المنافسة العالمية في مجال الذكاء الاصطناعي، إذ لم يعد الأمن القومي ممكناً في عالم الديجيتال من دون التفوق التكنولوجي. لكن ما يثير السخط حول القرار بمعزل عن الجهة العسكرية التي ستستخدم «لاما»، أن الأخير، وكونه مفتوح المصدر، طوّر عبر أيادي مبرمجين حول العالم، ليس لينتهي به المطاف قابعاً في خوادم العسكر
الذكاء الاصطناعي المفتوح المصدر ثورة في عالم التكنولوجيا، إذ يُتيح لأي شخص في العالم الوصول إلى الشيفرة البرمجية الخاصة به (بعكس الأنظمة الأخرى المشفرة)، فيستطيع المطوّرون من المبرمجين المستقلين والشركات الصغيرة والمجتمعات البحثية الانخراط في تطوير هذه النماذج. وعلى مدار السنوات القليلة الماضية، شهد العالم جهوداً جماعية هائلة أسهمت في تعزيز قوة نماذج الـ AI ودقّتها، وصارت هذه الأنظمة جزءاً من طموح عالمي يهدف إلى تسريع الابتكار في هذا المجال. لكن هذه الثورة التعاونية أثارت اهتماماً خاصاً لدى الجيش الأميركي، الذي أدرك الإمكانات الهائلة التي يمكن أن يوفرها الـ AI المفتوح المصدر في ميدان الأمن القومي والدفاع. وأخيراً، فتحت شركة «ميتا»، المالكة لمنصات تقنية عملاقة، باب استخدام نموذج الذكاء الاصطناعي الخاص بها «لاما» أمام جهات حكومية وأمنية أميركية. وبينما أتاحته في البداية لأغراض أكاديمية وتجارية، اتجهت الآن إلى إبرام شراكات مع شركات دفاعية أميركية مثل «لوكهيد مارتن» و«بالانتير» و«بوز ألين»، وشركات التكنولوجيا المتخصصة مثل «أندوريل»، ما جعل من هذا النموذج أداةً في يد الجيش الأميركي. وتثير هذه الخطوة اهتماماً ونقاشاً كبيراً في أوساط عالم التقنية، إذ بعدما أسهم الآلاف حول العالم في تطوير ذلك النظام، أصبح الآن تحت سيطرة الجيش، الذي سيستخدمه بطبيعة الحال لتعزيز تفوقه العسكري والتكنولوجي.
وفقاً لتقرير نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» في 4 تشرين الثاني (نوفمبر) الحالي، فإنّ قرار «ميتا» يمثل تراجعاً عن سياستها السابقة التي كانت تمنع استخدام تقنياتها للأغراض العسكرية، إذ تسعى الشركة الآن إلى تعزيز استخدام «مسؤول وأخلاقي» للذكاء الاصطناعي ضمن إطار يخدم المصالح الأميركية. كما تهدف هذه السياسة الجديدة إلى «تعزيز السلامة والأمن والازدهار الاقتصادي» للولايات المتحدة وحلفائها. لكن هذه الخطوة لم تخلُ من الجدل، فهي تمثل تغييراً كبيراً في موقف «ميتا» الأولي، الذي كان يستبعد استخدام الـ AI للأغراض العسكرية بشكل قاطع. وقال رئيس الشؤون العالمية في «ميتا»، نِك كليغ، إنّ الشركة ملتزمة بمساعدة الولايات المتحدة و«القيم الديموقراطية» في السباق نحو التفوق في مجال الذكاء الاصطناعي على الساحة العالمية وفقاً لما نقلت صحيفة «الغارديان» في تقرير نُشر بتاريخ 5 تشرين الثاني الحالي. يعطي نموذج «لاما» المفتوح المصدر الولايات المتحدة ميزةً إستراتيجية في السباق الدولي للذكاء الاصطناعي، وخصوصاً مع تكثيف دول مثل الصين استثماراتها في هذا المجال لأغراض دفاعية. وأشارت «الغارديان» إلى أنّ صانعي السياسات الأميركيين قد اعترفوا منذ مدة طويلة بأنّ الأمن القومي يشمل الآن التفوق التكنولوجي. وقد انتشرت هذه الفلسفة في المناقشات السياسية الأخيرة؛ إذ أصدر البيت الأبيض مذكرة تؤكد على ضرورة «تبني الذكاء الاصطناعي بسرعة لتحقيق أهداف الأمن القومي». وتعزز هذه المذكرة من البيت الأبيض أهمية التكنولوجيا في الدفاع الوطني، مؤكدة على أنّ «التطورات في مجال الذكاء الاصطناعي سيكون لها تأثير كبير على الأمن القومي والسياسة الخارجية في المستقبل القريب». وقد أدى هذا التركيز السياسي إلى زيادة الطلب الملحّ على قدرات الـ AI من القطاع الخاص، ما دفع شركات مثل «ميتا» إلى تكثيف مساهماتها. واللافت أنّ تقريراً خاصاً نشرته وكالة «رويترز» في بداية الشهر الحالي، كشف عن تمكن باحثين صينيين من الحصول على نسخة قديمة من نموذج «لاما»، واستخدامه لأغراض استخباراتية لمصلحة جيش التحرير الشعبي الصيني. ورداً على هذه الحادثة، أكدت «ميتا» أنّ الحكومة الصينية لم تحصل على ترخيص لاستخدام الـ AI الخاص بها للأغراض العسكرية، فجُهد مبرمجي العالم حلال على أميركا فقط!
لم تعد القوة العسكرية وحدها هي التي تحدّد مدى التفوق، بل قوة الحوسبة
وصحيح أنّ تحول «ميتا» في سياستها الجديدة مقلق، لكنه ليس جديداً، فقد كان وادي السيليكون دوماً مورداً رئيسياً لتقديم حلول التكنولوجيا للأغراض العسكرية، بدءاً من عقود الحوسبة السحابية لشركة «أمازون» مع وزارة الدفاع إلى شراكة «غوغل» مع البنتاغون في مشروع «مافين» عام 2018. ولا ننسَ مشروع «نيمبوس»، وهو شراكة تكنولوجية بين «غوغل» و«أمازون» مع الحكومة الإسرائيلية أعلن عنها عام 2021، تهدف إلى توفير بنية تحتية سحابية متقدمة لدعم العمليات الأمنية ضد الشعب الفلسطيني. إذ أتاح هذا المشروع للحكومة الإسرائيلية استخدام تقنية الحوسبة السحابية لمعالجة كميات هائلة من البيانات وتحليلها بشكل سريع وفعّال، ما عزّز قدرتها على مراقبة الفلسطينيين وتنفيذ عمليات أمنية متعددة. لكن بالنسبة إلى واشنطن، لا شيء يقلقها أكثر من بكين، وشعورها بضرورة البقاء قادرة على المنافسة تكنولوجياً مع الصين، يمثل دافعاً كبيراً إلى عسكرة كل شيء من الذكاء الاصطناعي إلى صناعة الشرائح الإلكترونية.
تعاون «ميتا» مع الحكومة الأميركية والمتعاقدين الدفاعيين، أظهر للجميع مدى سرعة تحول الذكاء الاصطناعي إلى أحد الأصول الأساسية في العسكر، مع إمكانات لتطوير كل شيء من جمع المعلومات الاستخباراتية إلى العمليات القتالية ووصولها إلى مستويات لم يشهد العالم لها مثيلاً. يمتد دور الذكاء الاصطناعي في التطبيقات العسكرية إلى ما هو أبعد من القدرات الدفاعية التقليدية، ليشمل مجالات مثل الأمن السيبراني ومكافحة التهديدات، ويمكن أن يساعد في مراقبة ومواجهة الأنشطة المزعزعة للاستقرار.
ومع استمرار تطور تكنولوجيا الـ AI، يُتوقع أن تتطور تطبيقاتها العسكرية لتصبح أكثر فعاليةً وقوةً. ويعتقد المحللون أنّ التطورات في الأسلحة الذاتية القائمة على الذكاء الاصطناعي، وتحليل البيانات في الوقت الحقيقي لاتخاذ قرارات ميدانية، وتعزيز الدفاعات الإلكترونية، ستوفر جميعها ميزةً إستراتيجية. فلم تعد القوة العسكرية وحدها هي التي تحدد مدى التفوّق، بل صارت قوة الحوسبة (القدرة على معالجة كميات هائلة من البيانات وتحليلها بسرعة فائقة)، عبر أنظمة الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية وتحليل البيانات الضخمة، أداةً رئيسية في دعم القرارات العسكرية وتوجيه الضربات بدقة وتوقع تحركات الخصوم. تسعى الدول الكبرى اليوم إلى بناء بنية تحتية حاسوبية فائقة تمكّنها من تحليل معلومات استخباراتية ضخمة في الوقت الحقيقي، والتعرف إلى أنماط التهديدات بسرعة، واتخاذ قرارات حاسمة بشكل أسرع من خصومها. في هذا السياق، لا تهدف قوة الحوسبة فقط إلى كسب المعركة، بل إلى التحكم الكامل في عالم الواقع عبر العالم الافتراضي.
سيرياهوم نيوز١_الاخبار