بقلم د. حسن أحمد حسن
باقتان من غارٍ وياسمين عطرتا أجواء دمشق وبيروت… كوكبتان من نور وضياء وعزة وكرامة وكبرياء زينتا تاريخ هذا المَشْرِقِ المٌشْرق بقناديل تبدّد أجواء الدجنَّة التي عمدت سلطات السلطنة البائدة لفرضها على الجميع، وهيهات هيهات لظلامة الجاهلية الأولى أن تمنع أشعة النور المتجدد في الأرواح والنفوس والوجدان والضمائر الحية القادرة على نقل جيناته النقية إلى الاجيال المتعاقبة ليبقى النور أشد انبثاقاً وأوسع انتشاراً، وعصياً على تغيير كنهه المبرَّأ من كل رجس ومثلبة، وهذا شأنه وديدنه مذ كُوّنَتِ السبع الطباق، فالنور يأبى أن يحاصر أو يصادر، وإذا اضمحل حينا فلكي يعود من جديد ليغمر من يستحق الحياة فيحيا عن بيّنة، ويهلك دون ذلك أنصار الدم والقتل والبطش والإجرام على اختلاف مسمياتهم عبر العصور.
محطتان من أَلَقٍ وشعشعانية لا تضمحل عبر السنوات والعقود، بل يضف الأوفياء الأمناء إلى قاموسها المعطر صفحات جديدة ناصعة نابضة تتحدى جبروت المعتدين وكيد الطغاة الظالمين وتثبت للعالم أجمع أن ثمن الكرامة غالٍ، ومهرها مستوجب الدفع مسبقاً لضمان استمرار الراية خفاقة في السماوات العلى يتناقلها الأوفياء وهم في طريقهم إلى عالم الشهداء القديسين، وتزين مسرى أولئك الأحياء الخالدين في جنة الفردوس الأعلى مع الأنبياء والمرسلين والشهداء والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقا…
دفعتان من أطهر الخلق وأنبل البشر تقدم أبطالها بهامات مرفوعة عالية الجبين، وبخطى واثقة لا وجل فيها ولا خوف… صعدوا الدرجات الأخيرة باتجاه مشانق السفاح العثماني المجرم وهم يرددون: (المشانق أراجيح الرجال) …. مجموعتان من الشهداء الأبطال أصدر المجرم جمال السفاح أحكامه بإعدامهم شنقاً، لا لذنب ارتكبوه إلا أنهم طالبوا باستقلال وطنهم من نير المستعمر العثماني البغيض، ونفذت أحكام الإعدام على دفعتين في الحادي والعشرين من آب 1915، وفي السادس من أيار فازدانت ساحة المرجة في دمشق بسبعة من رجالات الوطن، وتلونت ساحة البرج في بيروت بأربعة عشر آخرين كانوا الشهداء والشهود على انتهاء عصر السلطنة العثمانية البائدة التي يحاول أردوغان اليوم أن يعيد لها الحياة بعد أن نبت الربيع على دمنتها، وأكل الزمان عليها وشرب.
وهج الاستقلال الذي رسمه الشهداء الميامين انتقل بأمانة إلى بقية أبناء الوطن، فحمله وزير الحربية البطل يوسف العظمة ورفاقه في نفوسهم الشماء وأوردتهم الزاخرة بدماء الكرامة الوطنية وكانت ملحمة ميسلون التي حرمت غورو وقطعان قتلته من أن يدون التاريخ، أن غازياً دخل من دون قتال عاصمة الإنسانية دمشق الشام أقدم عاصمة مأهولة في التاريخ، وما تزال وستبقى، فهي عمود النور الذي تكفل الله جل جلاله بحمايته وديمومة وجوده بعزة وكرامة…
وكما كان شهداء السادس من أيار باكورة القرائن الدالة لزوال الاستعمار العثماني كذلك كان شهداء البرلمان الأبطال الذين رفضوا أداء التحية لعلم الانتداب، فجن جنون سلطات الاحتلال الفرنسي، وانهالت نيران المدفعية والدبابات على مبنى البرلمان السوري الذي يحمل في كل حجر من بنائه سيرة البطولة الغراء والوطنية الشماء، ووقفة العز والشموخ والعنفوان والإباء، وتتالت وما تزال قوافل الشهداء الميامين الذين افتدوا الوطن بأرواحهم ودمائهم الزكية الطاهرة، فحق لهم أن يستوطنوا الوجدان السوري ليتحول عيد الشهداء من ذكرى إلى ذاكرة، ويحق لسورية الأبية الصامدة المنتصرة أن ترتقي درجة جديدة ببركة شهدائها القديسين لتصبح موطن الشهادة وقيمها ومعانيها ودلالاتها بعد أن عرفت ولعقود بوطن الشهداء الأبطال الذي ما هانوا ولا وهنوا، ولا ترددوا في تقديم قوافل الشهداء لتبقى سورية الحبيبة وطن الغار والياسمين والمجد والأصالة التي تكلل قاسيون المجد وعرين الأسد المصمم على إيصال سفينة الوطن إلى شاطئ الأمن والأمان والسلامة والانتصار حماه العزيز الجبار…
عيد الشهداء هذا العام له نكهته الذاتية المضمخة بدماء أكثر من أربعة وثلاثين ألف شهيد فلسطيني وقرابة ثمانين ألف مصاب غالبيتهم من الأطفال والنساء والطواقم الصحية والإعلامية ممن ارتقوا بآلة القتل الأمريكية وبأيدي صهاينة حاقدين جن جنونهم، وفقدوا اتزانهم منذ الموجة الأولى لملحمة طوفان الأقصى المبارك التي أثبتت تداعياتها أهمية مبدأ وحدة الساحات وتواصل الجبهات، وها هي دماء الشهداء الأبطال تمتزج وتتعانق من غزة وفلسطين إلى اليمن جنوباُ وإلى بيئة المقاومة الميمونة في لبنان وسورية والعراق وإيران، وها هو العالم برمته ينتفض على الطغم الحاكمة المنضوية في المشروع الصهيو أمريكي المتعثر ببركة دماء الشهداء في جميع ساحات المواجهة المفتوحة….
كل عام وكل شهر وكل أسبوع وكل يوم وآن نستمطر شآبيب الرحمة لأرواح الشهداء الخالدين، ونحني الهام أمام عائلاتهم وذويهم وأهليهم الكرام الذي قدموا للوطن فلذات أكبادهم فحق لهم أن يفخروا بهذا الشرف الذي لا يضاهيه شرف ولا مكانة… الرحمة والقديس لأرواح شهدائنا الأبرار، والعهد والوفاء من كل أبناء الوطن على إكمال النهج مهما بلغت التضحيات…. لتطمئن أرواحكم الطاهرة في فردوس عليائها شهداءنا الأبطال الميامين، فالأمانة بأعناق الأوفياء القادرين على حملها وأدائها… لتطمئن أرواحكم المقدسة فالراية التي ارتقيتم لتبقى مرتفعة ما تزال عالية خفاقة، وستبقى ترفرف بأيدي من صدق الوعد، وأوفى العهد، وكل أبناء الوطن على يقين بحتمية انكفاء الظالمين، وعودة العتاة منهم لقرع بوابات دمشق، صاغرين وعلى أولئك أن يتذكروا دائما ويكونوا على يقين أن ارتفاع عتبة الباب الذي قد يفتح لهؤلاء أو أولئك إنما هي عتبة محكومة الارتفاع بقرار الأمين المؤتمن على كرامة الوطن والمواطنين، وقد يسمح لمن يعود نادماً، لكن بعضهم قد يدخل منبطحاً، وآخرون قد يدخلون زحفاً ، أو يضطر لاتخاذ وضعية القرفصاء أو غير ذلك…فسورية موطن الشهادة ووطن الشهداء كانت وستبقى عاصمة الياسمين العصية على كل المعتدين، وهي اليوم أقوى وأصلب وأمنع من أن تبعثرها ضغائن الحاقدين وتعاضد وطواغيت الكون أجمعين… فحماية الشام وعد إلهي، وحاشا لله أن يخلف الميعاد.
رحم الله شهداء الوطن وحمى عشاق نهج المقاومة، وأعزَّ سوريتنا الحبيبة شعباً وجيشاً وقائداً مفدى..
كل عام وأنتم بخير
(موقع سيرياهوم نيوز)