د. جمال الحمصي
في عصر الأزمات الدولية المركّبة والكوارث العالمية المعقدة والغموض الفوضوي المتفاقم، بما فيها الحروب والأوبئة والتضخم الركودي والزلازل والتغيرات المناخية، يتوجب العودة الى يقينيات العِلْم لتقصي مصائر المجتمعات والدول، وأسرار نهضتها وأفولها العابرة للأزمنة. فهل هنالك من نموذج تنموي أمثل وفريد يمكن تعميمه؟
وفي مجتمعاتنا العربية المعاصرة، للأسف، لا يُعطى علم التاريخ ودراسته العميقة الاهتمام الكافي، حيث يُعاد “اختراع العَجَلة المثقوبة” مراراً وتكراراَ دون الاستفادة من تجارب التاريخ ودروسه الأساسية والقابلة للتعميم.
ولدى الأمة الإسلامية كنوز دفينة من دروس التاريخ العميق وحلوله منذ خلق آدم حتى الألفية الثالثة، وهذا الكنز هو: هدْيُ القرآن الكريم الذي “فِيهِ نَبَأُ مَا كَانَ قَبْلَكُمْ وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ”، وتحديداً قطعيات القرآن في مجال بناء الأمم.
والقيمة المضافة الاستراتيجية للقرآن في دراسة التاريخ والاعتبار من تجاربه تتمثل في ثلاثة عناصر فريدة: (1) الشمول الزمني لأحسن القصص وأعظم السُّنن (تغطية أزمنة التاريخ المختلفة وما قبل التاريخ، ومثال ذلك مملكة سبأ) و(2) الموضوعية وعدم التحيز باستخدام مجموع الآيات القطعية، وأخيراً (3) الكونية والعالمية وقابلية التعميم (وليست نتائج حالات خاصة) وذلك ضمن منهجية صارمة ومتفق عليها في فقه السُّنن وتنزيله في حالات محددة.
ومن الجواهر القرآنية بهذا الشأن: القصص والسُّنن القرآنية، التي تشكّل حسب تقديرات البعض ثلث القرآن. وهي تشمل سير الأمم والأقوام السابقة، وقصص الانبياء والرسل وبعض الأولياء (كالعبد الصالح الذي اتبعه النبي موسى للتعلّم من حكمته) والشخصيات التاريخية البارزة (مثل ذو القرنين وطالوت).
ولا تركّز القصص القرآني في التفاصيل التي تعتبر ثانوية ويمكن بسهولة أن تتغير حسب السياق التاريخي والجغرافي، بل تركّز في العبر والدروس الثابتة والعابرة للمكان والزمان. وكما أكد المُفكر القرآني د. أحمد نوفل، فان القصص القرآني هي “ليست واقعاً بشرياً مضى، وانما واقع متجدد أو يقبل التجدد” في المستقبل. وعليه، فان السُّنن والقصص القرآني تشكل أصلاً استراتيجياً للدراسات المستقبلية وحقل بناء الأمم في توجهاتها الاستراتيجية والعليا.
وقد حاولت الدراسات المعاصرة والمتخصصة في العلوم الاجتماعية وفي علوم المستقبل أن تكتشف ما يُعرف ب “القوانين الطبيعية” للمجتمعات والدول و”القوانين التاريخية العامة” للازدهار والاستقرار، تلك القوانين التي لا تتحول ولا تتبدل مع مرور الزمن ومع تباين الحضارات والثقافات، لكن المحصلة لم تكن واعدة رغم كافة المحاولات عند الغربيين الأولين والآخرين.
والحكمة الغربية السائدة حالياً، بعد عقود ممتدة من مساعي دراسة المجتمعات والحضارات، انه يصعب اكتشاف قوانين سببية ونواميس حتمية (أو حتى راجحة) وبأثر متأخر أحياناً تحكم نهضة المجتمعات وسقوط الحضارات (Beed & Beed, 2000).
فالتاريخ حسب هذه الحكمة يبدو أعمى ولا يعيد نفسه، وتصعب المقارنات بين الأحداث التاريخية بشأن ازدهار الدول وأفولها، كما لا يمكن المقارنة بين التفاح والبرتقال. وبالتالي لا يوجد “مقاس واحد يناسب مختلف الأمم” أو حتى “ممارسات دولية مثلى”. بمعنى آخر يصعب التعميم في تلخيص تجارب الأمم الصاعدة (مثال: تجربة ايرلندا أو النمور الآسيوية) وبالتالي اكتشاف قوانين نهوض المجتمعات بسبب تباين الظروف الأولية وتعدد المسارات التنموية الممكنة.
لكن إن صح إدعاء هذه الحكمة الغربية السائدة: لِمَ يفرض ساسة الغرب علينا تجاربهم وقيمهم الخاصة ويعتبرونها “نهاية التاريخ”؟ أهو حُكم الطرف القوي فحسب؟ لِمَ لا تُحترم الخصوصية المحلية ويتم الإنطلاق من الجذور الوطنية والظروف الأولية الفريدة عند البحث عن النموذج التنموي الأقوم في ظل سياق جغرافي وتاريخي وثقافي معين؟
وقد قُسّمت النظريات العليا التي تحاول استكشاف ما بالتاريخ من دروس وعِبَر أساسية قابلة التعميم والنقل Transferable Lessons الى قسمين رئيسيين: نظريات شاملةGrand Theories ونظريات متوسطة النطاق Middle-Range Theories.
ونظرية العبقري ابن خلدون في دورات الأمم تنتمي الى النمط الشمولي الأول، في حين أن دراسة المفكر المعروف فرانسيس فوكوياما حول “أصول النظام السياسي: من عصور ما قبل الإنسان إلى الثورة الفرنسية” (2011) تنتمي الى الدراسات متوسطة النطاق. والدراسة الأحدث التي قام الكاتب مؤخراً بمراجعتها وهي “الأسس المجتمعية للتنافسية الوطنية” (2022) تحاول أيضاً اكتشاف دعائم استدامة المجتمعات المعاصرة وتنافسيتها على أسس متوسطة النطاق.
فلماذا نهضت أمة العرب في العصر الذهبي للإسلام؟ وكيف تطور الغرب بطلب العلم والشورى والحوكمة الرشيدة؟ وماذا سيحدث للأمم واستدامتها وسعادتها في الأجل الطويل إذا ما شاع الظلم وتفككت الأسرة وانتشرت الجريمة وأقصيت محكمات الدّين فيها؟
وماذا اذا طُبّع للشذوذ والإلحاد ومُكّن لهما في السياسات والتشريعات وفي الثقافة والإعلام والإعلان وفي التربية والرياضة والفنون؟ وماذا سيحدث للدول إذا سادت فيها ظاهرة الفرعونية من جديد؟ وماذا سيحدث للمجتمعات اذا ما انتشر فيها الفساد والترف والغش والربا و”كَثُر الخَبَث”؟ على عكس الحكمة السائدة غربياً في العلوم الاجتماعية المعاصرة، توجد إجابات للأسئلة السابقة بناء على فقه السَّنن (بما فيها سُنّة الاستدراج) والقصص القرآني.
وحالياً توجد بداية نهضة علمية عربية تستعين بمحكمات القرآن في مجالات حَرِجَة للنهضة مثل: الحوكمة الرشيدة والحركة الحضارية، منها على سبيل المثال لا الحصر: كتاب “الحكم الرشيد عند عظماء الحكام والملوك: ذوالقرنين أنموذجاً” لمؤلفه الخبير الإداري د. عبد العظيم الحمدي (2021)، وكتاب “قواعد المنهج في الحركة الحضارية لموسى عليه السلام” (2021) للمفكر السُّنني د. الطيب برغوث.
سيرياهوم نيوز 4_راي اليوم