إسماعيل مروة
غنية هي كتب تراثنا في ميادين التعليم والحياة والسياسة والتعامل، ولا يقتصر دورها على العبادة والشرع والتفسير والتاريخ كما يروج كثيرون.. إنها، وخاصة كتب الأدب تمثل التاريخ الحقيقي الحاضر لذلك الزمن، ويمكن أن نستشف منها الكثير الكثير.. وألا نقنع بأحكام هنا وهناك تجعل هذا حكيماً، والآخر تجعله فاسقاً، فهل نقرأ هذه الكتب قراءة استمتاع وفائدة؟
جاء في كتب الأدب، ومنها زهر الآداب والعقد الفريد وتذكرة الأبشيهي خبر يستدلون به على الأجوبة المسكتة المفحمة، الدالة على الذكاء، والأجوبة التي لا جواب بعدها كثير من الأخبار الطريفة، واستوقفني هذا الخبر لأنه يتعلق بشخصيتين لهما مكانتهما التاريخية، أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي ومعن بن زائدة، والخبر كما في التذكرة نصه:
«دخل معن بن زائدة على أبي جعفر المنصور فقال له: كبرت يا معن! قال: في طاعتك يا أمير المؤمنين، قال: وإنك لجَلْد، قال: على أعدائك، قال: وإن فيك لبقية، قال: هي لك، قال: أي الدولتين أحب إليك؟ أو أبغض؟ دولتنا أم دولة بني أمية؟ قال: ذلك لك يا أمير المؤمنين، إن زاد برك على برهم كانت دولتك أحب إلي، وإن زاد برهم على برك، كانت دولتهم أحبّ إليَّ، قال: صدقت».
إلى هنا ينتهي خبر مجلس من مجالس معن بن زائدة مع أبي جعفر المنصور، وفيه مناقشة طويلة عن الولاء والسياسة، وأبو جعفر هو الأكثر قوة وخطورة في تاريخ الدولة العباسية، والخبر يناقش أمراً لا نقاش فيه عند المنصور، فماذا نأخذ من هذا الخبر أو المجلس؟ ولماذا لا نقرأ مثل هذه الأخبار لتحليلها وفهمها والإفادة مما جاء فيها؟
نحن أمام هذا الخبر نواجه شخصيتين إشكاليتين، حاكم عرف بقوته وسطوته، وحكيم عرف بحكمته ورزانته، وتتداول له كتب الأدب أخباراً عن حكمته وحسن تخلصه، والخبر فيه ما فيه من النفاق الذي لم يصل إليه شخص آخر، ولم يعرفه ميكيافيللي، فماذا يحتاج الحاكم أكثر من هذه الشخصيات؟
كبرت! في طاعتك
كبرت! على أعدائك
فلم يتعد معن بن زائدة أن يكون تابعاً ذليلاً، وضع نفسه بنفسه في هذه المكانة، ولم يسعَ واحد لأن يضعه فيها، وإنما سعى إليها من تلقاء نفسه! أما ما رآه المصنفون على أنه جواب مسكت، وهو مسكت حقاً، فتمت قراءته من زاوية نفعية مصلحية، فمعن، وهو الطاعن في السنّ وقتها، لم يجد مفاضلة بين الدولتين الأموية والعباسية غير ما يأتيه من عطاء! إن زاد برك على برهم كانت دولتك أحب إليّ، وإن زاد برهم على برك، كانت دولتهم أحب إليّ!
فالعلاقة بين الحاكم والمحكوم عربياً، وعلى كل صعيد يبدو أنها محكومة بالعطاء، (من يأكل خبز السلطان يضرب بسيفه) فأين تميز حكمة معن؟ وبماذا اختلف عن سواه؟ وبماذا تميز عن العامة وهو يرى نفسه في طاعة المنصور وخدمته؟
ميكيافيلي يطلب من الحاكم عدداً من هؤلاء حوله شريطة ألا يأخذ بآرائهم، وأن يكتفي بالمتعة بما يقولون ويهللون له، ألم يفعل ذلك معن بن زائدة؟
وكذلك تروي الكتب أن إبراهيم بن هرمة آخر الشعراء الذين يستشهد بأشعارهم من شعراء الدولتين، وكان أموي الهوى، تعرض لبطش المنصور على الرغم من إعجابه بشعره، وكان يحسد الأمويين على ما قاله فيهم ابن هرمة، ولكن المنصور لم يقنع بولاء الشاعر، ولم ينله من العطايا ما تحدث عنه، فقال له: صدقت.. إن كان حقاً أن المنصور صدّق معن بن زائدة، فلمَ لمْ يشتر لسان ابن هرمة؟ وهل كان شاعر الهوى والمبالغة أكثر وضوحاً وانتماء من ذاك الحكيم؟
يقول الأصفهاني في الأغاني: «ومع ذلك يظل المنصور متوجساً منه شاكاً في وفائه، لمعرفته بروابطه الأموية، ونزعاته الهاشمية، حتى إنه أجاز لعيونه إن ارتابوا به أن يضربوا عنقه، ويأتوه برأسه، وفي حدّ من حدود الله يذكر أبو تمام أن ابن هرمة تجرأ وطلب من المنصور منع والي المدينة من جلده على سكره، فيأمر الخليفة واليه أن يجلد ابن هرمة سكران ثمانين جلدة، ومن أتى به مئة»!!
سيرياهوم نيوز1-الوطن