يمتلك الإنسان 6 أصوات أساسية للتعبير عن حالته. كيف يصبح الغناء فعلاً وظيفياً مرتبطاً بغريزة الإنسان؟
جمال سامي عواد
يقول الفنان العراقي الراحل فؤاد سالم في أحد مواويله الشهيرة باللهجة العراقية:
“هادا حجي (حكي) الناس أونّ (أئنّْ)
ومن لوعتي كالوا (قالوا) أغني”
هذا الربط بين الغناء والأنين لم يأتِ من صورة شعرية مبتكرة أبدعها مؤلف هذا الموال وحسب، بل أيضاً من صدقه في التعبير عن الارتباط اللاشعوري بين الفعلين. وإذا علمنا أن الأنين هو أحد الأصوات الستة الأساسية التي يمتلكها الإنسان بشكل غريزي، فإن الرابط يصبح أكثر وضوحاً، و يصبح الغناء فعلاً وظيفياً مرتبطاً بغريزة أساسية عند الإنسان.
في كتابه “الأنواع الرمزية”، يقول الفيلسوف واللغوي الأميركي، والاختصاصي في علم الأمراض العصبية، تيرينس ديكون إن: “التصويت المديد كان وما يزال حتى اليوم الشكل الفريد الذي يفي بحاجات التواصل الاجتماعي والتعبير المرمّز عن العواطف و الاحتياجات. ولكن في الوقت نفسه، يبدو أن من بين الأنواع القريبة للبشر في سلم التطور، يمتلك الإنسان العدد الأقل من النداءات الصوتية الغريزية”.
ففي حين يستطيع الكلب أن يصدر طيفاً واسعاً من الأصوات، التي توصل الكثير من الرسائل لأفراد جنسه أو للبشر، أو لمجرد التعبير عن حالته، وهذا ما يعرفه مربو الكلاب جيداً، نجد أن الإنسان ليس لديه سوى 6 أصوات أساسية هي، وفق ديكون: الضحك والنشيج والصراخ والأنين والتنهد والبكاء.
وبالتالي، فإن النداءات البشرية الأساسية لا تتعدى هذه الأصوات الستة (مع تنويعاتها الخاصة) ويتميز بها البشر جميعاً. لذلك، فإن وجود الموسيقى باعتبارها نغماً وإيقاعاً (وفق أبسط تعريفات الموسيقى) في حياة البشر، كان من المستلزمات الضرورية للتعبير الترميزي (الموسيقي) عن الحاجات والعواطف، وخصوصاً في مرحلة ما قبل تشكل اللغة المنطوقة، بغية سدّ الثغرات في جدار التواصل بين الإنسان ومحيطه، وهو ما أثبتته الأبحاث العلمية كافة.
ففي عصر الصيد والالتقاط يمكننا توقع التعابير الصوتية التي يحتاجها الإنسان للتعبير عما قد يصيبه من مشاعر وأحاسيس. فالإنسان الصياد كان يتعرض للأذى الجسدي أثناء ملاحقته لطرائده، وهو ما أوجد لديه الصراخ والأنين الناتجين من الألم لفقد شخص مقرب إليه، أو كان يحس بالخيبة لفشله في الصيد أو إيجاد الطعام، فاحتاج للتعبير عن عاطفة الحزن بواسطة البكاء أو التنهد أو النشيج. ومن الملاحظ هنا أن كل هذه الأصوات تعبّر عن عواطف يمكن تصنيفها بأنها عواطف سلبية مزعجة، يجمعها الحزن كما يجمع الخيط حبات السُبحة. لذلك، اتخذت عاطفة الحزن لديه مكانة خاصة جداً بالنظر إلى أسبقيتها وشمولها.
في المقابل، تحجز عاطفة الفرح مكانها في حياة الإنسان البدائي على الرغم من تراجع المساحة المخصصة لها في حياة كانت تملؤها المخاطر والتحديات الوجودية. فقد كان الفرح الناتج من متعة الصيد الوافر أو الأكل أو الجنس أو الاحتكاك بالطبيعة التي تدير له وجهها المسالم والمشرق أحياناً، من العواطف المنافسة لعاطفة الحزن، وأخذت بدورها حصة من الأصوات الغريزية كصوت الضحك. وهنا، لا بد لنا من التساؤل عن أهمية التعبير عن عاطفة الحزن في الموسيقى وعن جاذبيتها، رغم أنها تستجلب المشاعر المصنفة مشاعر سلبية.
ولعل في مراجعة للأساليب الموسيقية التي عرفتها البشرية قديماً يمكن أن نعثر بسهولة على الرابط بين الغناء الحزين وبين البكاء. ومنها الأنغام الشرقية حيث درجت الموسيقى الشرقية الأصيلة والتراثية على استخدام مقامات محددة للتعبير عن عاطفة الحزن، أشهرها مقام الصبا، ثم الحجاز، ثم النهوند.
ففي أغنية “سكابا” على سبيل المثال نلمس ذلك الحزن الطاغي الواضح والمباشر عبر جنس الصبا بصيغته الأساسية، وهو تشكيل نغمي مؤلف من 4 نوتات موزعة بطريقة تفصل بينها مسافات صوتية تشبه إلى حد ما صوت البكاء، وخصوصاً عندما نلاحظ صوت النوتة الأخيرة التي يفصلها عن سابقتها مقدار نصف بعد موسيقي (صيغة المقام ثلاثة أرباع البعد – ثلاثة أرباع البعد – نصف بعد).
أما أقدم وأجمل مثال على استخدام نغمة الحجاز في التعبير عن الحزن الشفيف فنجده في أغنية “هالأسمر اللون”. ففي الوقت الذي تكون فيه مسافة النصف بُعد في مقام الصبا موجودة بين النوتة الأخيرة وما قبلها من جنس الصبا، فإننا نجد في مقام الحجاز مسافتين نصفيتين واحدة في البداية وواحدة في النهاية تفصل بينهما مسافة كبيرة نسبياً مقدارها 1.5 بُعد. و هذا يجعل التعبير عن الحزن أقل مباشرة، ولكنه أكثر عمقاً وديمومة وهدوءاً.
أما مقام النهوند (صيغته المقامية: بعد – نصف بعد – بعد – بعد – نصف بعد – بعد – بعد)، فهو المقام الأكثر تطوراً في التعبير عن الحزن الإنساني المملوء بالشجن والحب والشوق والألم والتأمل في تلك المشاعر. لذلك، فإن الكثير من الأغاني الشهيرة التي تعبّر عن عاطفة الحزن والشوق والأمل، لُحّنت على هذا المقام العظيم، ومنها أغنية “رق الحبيب” لأم كلثوم، حيث تجسدت فيها كل هذه المشاعر عبر لحن متأمل وهادئ وحزين، لكنه في الوقت نفسه متفائل ومتأمل ومدرك لهذه العواطف.
ربما نجد الكثير من الأغاني الفرحة والراقصة الملحنة على مثل هذه المقامات، لكن شعور الفرح يتجسد في هذه الحالة في الإيقاع والكلمات وحركة اللحن، والعكس صحيح، إذ يمكن أن نجد أغنية حزينة ملحنة على مقام الراست مثلاً فيما إيقاعها ومسارها اللحني يوحي بمسحة من الحزن كأغنية مارسيل خليفة “جبل الباروك” التي استخدم فيها مقام الراست مع تنويعاته في قطعة موسيقية تستهدف الرثاء.
وقد يأتي الحزن في لبوس غير لبوس المقام والإيقاع، كما هي الحال في الغناء العراقي بشكل عام، حيث نعثر على تنويع جديد وعبقري في التعبير عن الحزن عبر خامة الصوت والأداء. الأمر الذي ينطبق على معظم أعمال الراحل ياس خضر. فإذا دققنا في أغنيته “حن وانا حن” سنجد هذه الأساليب كافة مجتمعة في أغنية واحدة. وكذلك الأمر في بعض اللطميات الحسينية نوع من الغناء يتطابق تماماً مع البكاء ويتناوب معه أحياناً.
أما في الموسيقى الغربية فلدينا كم هائل من المقطوعات والأغاني الحزينة، لكنها لا تمتلك التنوع المقامي والإيقاعي نفسه، بل تختار في غالب الأحيان مقام “مينور” من أي درجة كانت للتعبير عن العاطفة الحزينة، أو يمكن أن تعتمد في التعبير عن عاطفة الحزن بمرافقة الأغنية أو المقطوعة بتآلفات من مقام “المينور”، أو بتآلفات تعدّ شاذة نظرياً بحسب علم الاشتقاق الموسيقي، بيد أنها تعبّر بوضوح عن عاطفة الحزن كما في “إيزوالد” لفاغنر.
و لا يجدر أن ننسى أن التعبير عن الحزن في الموسيقى والأغاني قد يستخدم عنصر الموسيقى المتعلق بطبيعة صوت الآلة نفسها (tembre)، فبعض الآلات الموسيقية ترتبط في ذهن الإنسان بالحزن حتى لو لم يسبق له أن سمع صوت هذه الآلة مسبقاً، وهو ما نجده في صوت آلة الناي الشرقي وخصوصاً آلة الكَوَلة، أو صوت الربابة. كما يمكن أن نميز بسهولة بحة الحزن في آلات غربية كالتشيلو والكونترباص والكلارينيت والفلوت. لكن هناك دائماً عنصر يتعلق بعاطفة العازف أو المغني أو الملحن، بحيث يمكن له نقل مشاعر الحزن أو الفرح الممزوج بالحزن، أو الفرح الخالص في منحنى اللحن أو توزيع اللحن وإيقاعه وأداء المغني إن كان العمل مغنى.
ولعل وجود الكثير من تقنيات الغناء الغربي التي تعطي الكثير من الأحاسيس والمشاعر المطلوبة، يمكن تبريره بندرة المقامات التي يؤلف عليها الغربيون موسيقاهم الحزينة.
سيرياهوم نيوز1-الميادين