| عصام النقيب
في مقال له في «الأخبار» (يوم 19/3/2022)، بعنوان «الموت السياسي للعرب: كيف استقلنا من التاريخ؟» قدّم د. أسعد أبو خليل مجموعة من الأفكار والتحاليل الأولية الصادمة بصراحتها للأحداث العربية، فسّر من خلالها مضمون مقالته أن العرب خرجوا من التاريخ، بعدما كانوا قد دخلوا بقوة إلى داخل مجراه العريض بزعامة عبد الناصر، الذي وثقت الشعوب العربية بشخصه وقيادته. وبفضل ذلك، كانت القوى الكبرى تحسب حساب الشعوب العربية، وآراء عبد الناصر بالذات، في ما يخصّ أي قرارات تتّخذها ذات علاقة بالمنطقة العربية. فقد كانت هذه الشعوب تعبّر عن غضبها ومعارضتها لأيّ قرار يتعارض مع مصلحة أيّ من الدول العربية، بالخروج إلى الشوارع ومحاصرة السفارات والاحتجاج، أي استخدام «العنف السياسي» حسب تعبير الكاتب.
وقد توقف ذلك الآن تماماً. إذ لا أحد يحسب حساب الشعوب العربية أو مواقف دولها. ولم يعد هناك، في وزارات الخارجية الغربية، خبراء مستعربون يتصارعون مع الصهاينة، كما يقول الكاتب، حرصاً على إرضاء الشعوب العربية لتأمين مصالح دولهم. كل ذلك لم يعد موجوداً الآن، بعدما سيطر الجهاز الصهيوني على كل مقدّرات صنع السياسة الخارجية نحو بلادنا في الولايات المتحدة، ومنذ نهاية التسعينيّات، في كندا. (ويمكن الآن، إلحاقاً بما ذكره الكاتب، أن نضيف بريطانيا إلى القائمة).
ثم قدّم أبو خليل ستة أسباب لتفسير الظاهرة، والعودة إليها لاحقاً، ولدعم رأيه في أن العودة إلى الخيار العسكري على مستوى الدول، والعنف السياسي على مستوى الشعوب، وليس المفاوضات أو الأساليب الدبلوماسية هي الطريق الوحيد للخروج من الأوضاع الراهنة. وهو يرى، في هذا السياق، أن أساليب اللاعنف وقيادة المجتمع المدني للعمل الوطني لا مجدية، والدعوة إليها مشبوهة، ويسخر، دون تقديم الأدلة، من صحة القول إن حركة المقاومة المدنية، التي قادها غاندي، هي التي حررت الهند من الاستعمار البريطاني.
من الصعب الاختلاف مع مقولة خروج العرب المعاصرين من التاريخ، لأن كل الأحداث تشهد بذلك، كما أصبح الشعور بالتراجع في كل الميادين وغياب العرب عن التأثير في مجرى الأحداث، التي تخصّ مصير أوطانهم، يخيّم على معظم الأقطار العربية، وبخاصة بلدان الهلال الخصيب واليمن وليبيا، التي أصبحت شعوبها تعيش في أوضاع كارثية، غير مسبوقة في تاريخها.
تنطلق هذه المداخلة من تثمين مبادرة أبو خليل بدقّ جرس الإنذار لدول المنطقة وشعوبها، وتذكيره لها بحالة انعدام الوزن الدولي التي وصلت إليها، ومخاطر المستقبل الذي ينتظرها، لو استمرت في تجاهل هذه المخاطر والتحديات. وتسعى المداخلة، انطلاقاً من مناقشة مجموعة الأسباب التي قدّمها الكاتب لتفسير الظاهرة، إلى التعرّف، بمزيد من التعمق، إلى جذور هذه الأزمة ومسارها الزمني. وهي تركّز، بصورة حصرية، على موضوع واحد دون غيره: هو محاولة فهم دور النظم العربية التي حاولت أن تملأ الفراغ الذي تركه عبد الناصر، بعد رحيله مباشرة، في التمهيد لمسلسل الأحداث الكارثية التي حلّت بالمنطقة العربية لاحقاً، وصولاً إلى الحالة الحاضرة. أي أنّ المداخلة، تتوقف عمداً عند هذه النقطة، دون التعرّض لتلك الأحداث، بأيّ قدر من التفصيل، لكون ذلك يتعدّى بكثير حدود مثل هذه المداخلة وهدفها.
البحث عن الأسباب
يلاحظ، بداية، أن بعضاً من الأسباب الستة، المقترحة من أبو خليل، هي أقرب إلى أن تكون من أعراض الظاهرة بدلاً من مسبّباتها. وعلى سبيل المثال، فإنّ «حالة الإحباط التي تمرّ بها الشعوب العربية» التي قدّمها الكاتب كأحد الأسباب الستّة (السبب 3)، تبدو نتيجة لحالة التراجع العربية ونتائجها الكارثية على حياة الشعوب العربية، وليست تفسيراً لها.
وكذلك فإن «غياب زعامات عربية تتحدّى الواقع» (السبب 4) هو توصيف للواقع القائم وليس تفسيراً لأسبابه. فالقول مثلاً إن فلاناً مريض هو مرادف للقول إنه إنسان يفتقر إلى الصحة، وليس تفسيراً لمرضه.
ومع الاعتراف بأهمية «ظاهرة مواقع التواصل الاجتماعي التي توهم الفرد بأن كتابة تغريدة هي بنفس قوة تظاهرة أمام مبنى حكومي أو سفارة أجنبية» (السبب 6)، وخاصة بعدما أصبح لهذه الظاهرة ما يشبه مفعول المخدّر بالنسبة إلى قطاعات واسعة من الشعوب العربية، إلا أن هذه الوسائل متاحة لكل شعوب العالم وليس للشعوب العربية وحدها، ومنها تحصل شعوبنا على الكثير من الأخبار ووجهات النظر التي يحجبها عنها الإعلام الرسمي، وخاصة أن غالبيّة المواطنين يقضون معظم أوقاتهم في البحث عن مورد رزقهم ورزق أسرهم.
وكذلك فإن «سياسة الإلهاء المقصودة والتي أوعزت بها الحكومة الأميركية لحكومات السعودية والإمارات وقطر للإفراط في إعلام التسلية والفن وكل ما هو بعيد عن فلسطين» (السبب 1) تبدو قليلة الأهمية في سياق هذا الموضوع، فالمشاهدون الذين يتابعون هذه البرامج على الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، عندهم خيارات أخرى كثيرة. وما يبدو أكثر أهمية، هو أن النفط السعودي والإماراتي، وخاصة منذ ثورات الربيع العربي، أصبح يستخدم في شراء الأقلام وما تبقى من منابر الصحافة والميديا ذات الاستقلال النسبي في المنطقة، وإغلاق معظمها. وما يبدو أكثر أهمية من ذي وذاك، أنه منذ زمن طويل، خيّم الظلام، على كل منابر الإعلام المستقلة، ودفع الكثير من حمَلة الأقلام والآراء الحرّة حياتهم ثمناً لذلك، في دول الأنظمة العسكرية، التي وصلت إلى الحكم في السبعينيّات من القرن الماضي. حيث احتكر الإعلام الرسمي وصحافة الدولة فبركة الحقائق، وإبداء الرأي، ما صرف الناس، داخل تلك الدول وخارجها، عن قراءة أو تصديق أيٍّ مما ينشر أو يذاع هناك، ودفعهم إلى البحث عن مصادر أخرى.
في مقابل الأسباب الأربعة التي جرت الإشارة إليها، يبدو أن «فعالية القمع العربي في خلق حالة استكانة لدى المواطنين» (السبب 2) يخاطب جذور المشكلة في الصميم. لأن القمع العربي سبق حالة التراجع وكان من أهم مسبّباتها. إلا أنّ الكاتب لم يتوسع بصورة كافية، في تحليل دور هذا العامل المحوري، في تفسير الظاهرة، بتقديمه مثالاً واحداً على القمع، هو حالة دولة الإمارات. فبالرغم من أن المعلومات كافّة، المتوفرة في الفضاء العام، تدعم قوله بأن الإمارات تحكم بقبضة أمنية حديدية، لقمع أيّ صوت معارض، وخاصةً بعد تحالف حاكمها علناً، مع وليّ العهد السعودي، بالانضمام الرسمي والصريح إلى المعسكر الصهيوني، وأصبحت مخابراتها تنسّق وتتبادل المعلومات مباشرة مع «الموساد»، فإنّ الدور الإقليمي الذي تقوم به الإمارات في المنطقة حديث العهد نسبياً، ولاحق لحالة التراجع والتخبّط العربي التي بدأت قبل ذلك بسنين طويلة. أي أن حالة الإمارات، على أهميتها الحرجة بالنسبة إلى الأوضاع الحاضرة، لا تفيد كثيراً كمثال عند البحث عن جذور حالة التراجع، في الوقت الذي اشتهرت فيه المنطقة، منذ عقود، بالأمثلة على وجود أنظمة عسكرية قمعية، لا تتردّد في سحق شعوبها ضماناً لبقائها.
وأخيراً، لا شك أنّ «ضعف القضايا المركزية بعد سقوط منظمة التحرير وانتهاج ياسر عرفات لمسيرة أوسلو التي قضت على المقاومة الفلسطينية المسلّحة في عمودها الفقري» (السبب 5) هو أيضاً من أخطر مسبّبات حالة التراجع والتدهور العربي.
وكما بيّن د. أنيس فوزي قاسم، في دراسته المرجعية لاتفاقيات أوسلو «الآثار القانونية لاتفاق أوسلو» بالرجوع إلى وثائقها وموادها وملاحقها بالتفصيل (1)، (وهي، في حدود معرفة كاتب هذه المداخلة، الدراسة الوحيدة المنشورة بالعربية التي تصدّت لإنجاز هذه المهمة البحثية القانونية ذات الأولوية العالية)، فإنّ ما قدمته أوسلو للحركة الصهيونية، من هدايا مجانية، أكثر إجحافاً بحقوق الشعب الفلسطيني، ودعماً للمشروع الصهيوني، من القرارات السياسية التاريخية التي مكّنت الحركة الصهيونية من استعمار فلسطين، مثل وعد بلفور (1917)، ووثيقة الانتداب (1920) الصادرة عن عصبة الأمم، وقرار التقسيم ( 1947).
يلاحظ أن بعضاً من الأسباب الستّة، المقترحة من أسعد أبو خليل، هي أقرب إلى أن تكون من أعراض الظاهرة بدلاً من مسبّباتها
ما يضاعف من أهمية الاستنتاج الذي توصل إليه قاسم، هو أن القرارات الدولية الثلاثة المشار إليها، تحققت بإرادات استعمارية ودولية، لم يكن بمقدور الشعب الفلسطيني إيقافها. أمّا اتفاقية أوسلو، فقد تحققت بإرادة القيادة التاريخية لمنظمة التحرير الفلسطيني، وملء موافقتها، وخلف ظهر الشعب الفلسطيني. وهو ما لم يحدث في تاريخ الحركات الوطنية المعروفة كلها. وبهذا، فإن تجربة أوسلو قدّمت درساً قاسياً للشعب الفلسطيني، ولكل شعب عربي آخر، وهو ألّا يسلم شؤونه أبداً لأيّ قيادة لا تنبثق من بين صفوفه، بصورة تمثيلية، ولا تخضع، في كل الأوقات، لمساءلته ومحاسبته وموافقته.
الحقيقة، أن النتائج، التي تمخّضت عنها اتفاقية أوسلو، أخطر بكثير من مجرد «القضاء على المقاومة الفلسطينية المسلحة في عمودها الفقري». فقد تنازلت قيادة المنظمة، من خلال الاتفاقية، عن كامل الحقوق الفلسطينية، دون قيد أو شرط، وتجاهلت وجود الاحتلال والاستيطان والمستوطنات وعمليات التطهير العرقي في القدس والضفة، وتعاملت معها كأنها مسلّمات بديهية وحقائق تاريخية قديمة قدم المدن والبلدات والقرى الفلسطينية العريقة التي يعود تاريخها إلى مئات وآلاف السنين. فكلّ وثائق الاتفاقية، التي تصل في حجمها إلى مئات الصفحات، ومئات الآلاف من الكلمات، تخلو من أيّ مفردات أو عبارات مفتاحية مثل: احتلال، جيش احتلال، سلطة احتلال، أراضٍ محتلّة، عمليات استيطان، مستوطنون، أراضٍ مصادرة، إخلاء البيوت من أصحابها، شعب فلسطيني، حقوق فلسطينية، حقّ تقرير المصير، القدس الشرقية (إذ تستخدم كلمة القدس فقط بوصفها القدس الموحّدة، العاصمة الأبدية لإسرائيل)، فضلاً عن تعابير أخرى، مثل دولة فلسطينية أو دولة فلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية، التي ادّعت قيادة المنظمة أن توهم الشعب الفلسطيني بأنه هدف الاتفاقية (2). أي أنّ الاتفاقية كانت تعادل عملية تطبيع كاملة، من قبل قيادة المنظمة، مع الاحتلال ونشاطاته المستمرة في الاستيطان والتهويد والتطوير العرقي، وبالتالي مع الحركة الصهيونية. وكأن قيادة المنظمة أصيبت فجأة بحالة من فقدان كامل للذاكرة الوطنية (أمنيزيا). وكان ذلك كله مقابل إقامة سلطة فلسطينية، إدارية وقضائية، خالية من أيّ مقوّم من مقوّمات السيادة، على مناطق الكثرة السكانية الفلسطينية. وهي الجزر السكانية المعزولة بعضها عن بعض، والمؤلّفة من المدن الفلسطينية والبلدات والقرى المحيطة بها مباشرة، والتي لا يزيد مجموع مساحتها على 9% من مساحة فلسطين التاريخية. كما أن الوظيفة الرئيسية للسلطة، وفق نصوص الاتفاقية، هي ضبط الأمن في المناطق الفلسطينية ومنع أيّ احتكاك بينها وبين قوات الاحتلال أو المستوطنين والمستوطنات، من خلال التنسيق الأمني على مدار الساعة مع الأمن الإسرائيلي. وهو ما مكّن الاحتلال، ولا يزال، من مضاعفة وتيرة عملياته في الاستيطان والتطهير العرقي، في المنطقة جيم (60% من الأراضي المحتلة)، وفي القدس ومحيطها الجغرافي الواسع، من البلدات والقرى العربية المعروفة، دون عوائق. وفي مقابل ذلك، تحصل السلطة على تمويل سنوي منتظم ومجزٍ من أموال الدول المانحة، ومن دافع الضرائب والرسوم الفلسطيني.
وهكذا، وبالرغم من مئات الصفحات التي تتألّف منها الاتفاقية، فإنّ معادلتها التعاقدية مغرقة في بساطتها المُذلّة: شركة خدمات حراسة فلسطينية تعمل، بعقد جانبي، في مؤسّسة ضخمة اسمها الاحتلال، تابع وسيد، وحفنة سنوية من الدولارات، مقابل وطن (3).
سيرياهوم نيوز3 – الأخبار