جلال فيروز
كيف استطاع الصهاينة أن يتحكّموا في الحكومة الأميركية ويجعلوها مطواعة لمصالح الكيان الإسرائيلي؟ يجد القارئ نفسه أمام سؤال ثقيل، يتجاوز طبيعته الاستفهامية ليأخذ بعدًا إستراتيجيًا يمس جوهر السياسة العالمية.
فالولايات المتحدة، التي تُقدّم نفسها بوصفها رمزًا للديموقراطية وقلعة للحرية، كثيرًا ما بدت أشبه بحارسة أمينة على بوابة المشروع الصهيوني في الشرق الأوسط، لا مجرد حليف تقليدي أو شريك سياسي. ولم يكن هذا التماهي وليد لحظة تاريخية عابرة أو ثمرة مصالح آنية، بل هو امتداد لمسار طويل تم فيه تشييد جسر من النفوذ الناعم والخشن، عبَرت عليه شبكات الضغط الصهيونية من هامش التأثير إلى مركز القرار الأميركي.
حين يتتبع الباحث بتمعّن تحوّلات الموقف الأميركي من القضية الفلسطينية، منذ وعد بلفور إلى اعتراف ترامب بالقدس عاصمة للكيان الإسرائيلي، يكتشف أن هناك ما هو أعمق من مجرد تقاطع مصالح. فالنظام السياسي الأميركي، بطبيعته المفتوحة أمام المال والتأثير والإعلام، تحوّل إلى تربة خصبة لتغلغل اللوبي الصهيوني، الذي لم يكتفِ بالدفاع عن مصالح إسرائيل، بل عمل على تشكيل وعي الأميركيين وتوجيه بوصلتهم السياسية لصالح أجندات تل أبيب، من داخل الكونغرس، إلى مراكز البحوث، إلى غرف الأخبار، وصولًا إلى قاعات المحاكم ومراكز النفوذ المالي، نجح اللوبي الصهيوني في بناء شبكة محكمة يصعب كسرها دون تكلفة باهظة.
سطوة «الآيباك» الخفية
الأمر لم يكن وليد المصادفة. فمنذ تأسيس «لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية» (AIPAC) عام 1951، تحوّلت هذه المؤسسة إلى الذراع القوية التي تدفع السياسات الأميركية في اتجاه يخدم الكيان الصهيوني أولًا. لا تمر انتخابات في الكونغرس دون تدخلها، سواء عبر التمويل أو التشهير أو دعم الإعلام. لقد أصبح من المعلوم لدى الساسة الأميركيين أن الاصطدام بـ«الآيباك» يساوي الانتحار السياسي، وهو ما اعترف به علنًا أعضاء سابقون في مجلس الشيوخ، تحدثوا –بعد تقاعدهم طبعاً– عن كيف كانوا مجبرين على مراجعة مواقفهم كي لا يُدرجوا ضمن لائحة «أعداء إسرائيل».
ولعل أخطر ما في هذا التغلغل، أنه لا يقتصر على التأثير التقليدي الذي تمارسه جماعات الضغط في كل الديموقراطيات، بل إنه يمس البنية الأخلاقية والخطاب السياسي الأميركي ذاته. ففي العقود الأخيرة، بدأت تتكرّس مقولة غريبة في أروقة السياسة الأميركية: من ينتقد إسرائيل، ولو كان نقدًا موضوعيًا مبنيًا على وثائق وتقارير، يُتهم تلقائيًا بـ«معاداة السامية». هذا الانزلاق المفاهيمي الخطير فتح الباب أمام تكميم الأفواه وقمع الأصوات المناهضة للاحتلال، حتى داخل الجامعات والمراكز البحثية. كثير من الأساتذة والباحثين تم تجميدهم أكاديميًا فقط لأنهم تضامنوا مع الشعب الفلسطيني، أو كتبوا دراسات عن جرائم الاحتلال الإسرائيلي.
البعد المالي
ولا يمكن تجاهل البعد المالي في هذه المعادلة. فالمؤسسات المالية الكبرى في وول ستريت، من بنوك وصناديق استثمار، كثيرًا ما ترتبط بعلاقات خفية أو مباشرة مع رجال أعمال صهاينة أو مؤسسات تدعم إسرائيل. هذه المؤسسات تموّل الحملات الانتخابية للمرشحين المؤيدين لتل أبيب، وتستخدم نفوذها الاقتصادي للضغط على الإعلام والمؤسسات الثقافية. حتى هوليوود، كمنصة ثقافية عالمية، لعبت دورًا مهمًا في تلميع صورة الكيان الصهيوني وتشويه خصومها، وخلق سردية متكررة تبرر الاحتلال وتدافع عنه.
المفارقة أن بعض الملفات الكبرى التي تفضح هذا النفوذ سُرّبت ثم سُحبت من التداول بسرعة لافتة. خذ مثلًا قضية جوناثان بولارد، الجاسوس الإسرائيلي الذي سلّم معلومات حساسة لإسرائيل من داخل الاستخبارات البحرية الأميركية. رغم جسامة فعلته، ضغطت الحكومة الإسرائيلية لعقود حتى تم الإفراج عنه.
ثم هناك حادثة الراقصين الإسرائيليين الذين ضُبطوا وهم يحتفلون على سطح مبنى في نيوجيرسي بعد أحداث 11 سبتمبر، وقيل إنهم كانوا يعملون لمصلحة الموساد. تم ترحيلهم بهدوء، دون تحقيقات معمّقة أو تغطية إعلامية. مثل هذه الوقائع، حين تُقرأ ضمن سياق النفوذ الصهيوني، تكشف أن المسألة تتجاوز الدعم السياسي، إلى ما يشبه الحماية الأمنية والاستخبارية.
السيادة الأميركية المختطفة
إن تحوّلات السياسة الأميركية الخارجية باتت تعكس بوضوح مصالح الكيان الصهيوني لا أولويات أميركا. الحرب على العراق، مثلًا، لم تكن ذات صلة مباشرة بالأمن القومي الأميركي بقدر ما كانت تنفيذًا لرؤية المحافظين الجدد الذين ترتبط غالبيتهم فكريًا وعضويًا بدوائر صهيونية. تم تسويق أكذوبة «أسلحة الدمار الشامل» لتبرير اجتياح العراق وتفكيكه، لأن وجود نظام عربي قوي في المنطقة كان يزعج إسرائيل. كذلك الموقف الأميركي من إيران، وسوريا، ولبنان، وحركات المقاومة، لا يُفهم إلا عبر عدسة المصالح الإسرائيلية، التي أصبحت تُدار من داخل مؤسسات القرار في واشنطن.
في خضم هذا الواقع، يطرح البعض سؤالًا وجوديًا: هل لا تزال أميركا تملك قرارها السيادي؟ أم أنها باتت دمية في يد المشروع الصهيوني؟ هذا السؤال لم يعد طرحه حكرًا على التيارات اليسارية أو النشطاء العرب، بل أصبح موضوعًا جادًا في دوائر فكرية أميركية مستقلة، خصوصًا بعد أن بدأت شريحة من الشباب في الجامعات تفتح عيونها على الوجه الآخر للسياسات الأميركية. عشرات الدراسات والأبحاث التي أُنتجت في العقدين الأخيرين من باحثين أميركيين، تُبيّن أن هناك اختطافًا حقيقيًا للعقل السياسي الأميركي، يتم عبر قنوات شرعية ظاهريًا، ولكنها مشبوهة في جوهرها.
التصهين الإعلامي والسياسي
إن أخطر ما في هذا المشهد، أن وسائل الإعلام الأميركية الكبرى لا تتحدث عن هذه الحقائق إلا نادرًا، وإن فعلت، فإنها تمر عليها مرور الكرام. الصحافي الذي يكتب أو يحقق في ملف النفوذ الإسرائيلي يجد نفسه في مواجهة حملة تشهير وتشكيك وشيطنة، وقد يفقد عمله أو يتعرض للملاحقة القضائية. ولعل هذا ما يفسر غياب النقاش الحقيقي حول العلاقة الأميركية الإسرائيلية في الساحة الإعلامية العامة، وتحولها إلى تابو لا يجوز الاقتراب منه.
إنّ من اللافت في هذا السياق أن الكثير من الساسة الأميركيين حين يغادرون مناصبهم يصبحون أكثر جرأة في الحديث عن هذا النفوذ الغريب. على سبيل المثال، تحدّث الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر في كتابه «فلسطين: السلام لا الأبارتهايد» عن ضغوط هائلة تعرّض لها أثناء محاولته التوسط لحل عادل للقضية الفلسطينية، مؤكدًا أن أي رئيس أميركي يحاول أن يتخذ موقفًا متوازنًا يُهاجم بضراوة من قبل اللوبيات المؤيدة لإسرائيل.
كذلك كان البروفيسور جون ميرشايمر وستيفن والت قد أثارا ضجة كبيرة بدراستهما الشهيرة حول «اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأميركية»، والتي نشرتها «مجلة لندن لمراجعة الكتب»، ثم تحولت إلى كتاب موثق، شرحا فيه كيف أن السياسة الأميركية تم اختطافها من قبل جماعات ضغط تعمل لمصلحة دولة أجنبية، هي الكيان الإسرائيلي.
وما يزيد الطين بلة أن هذا الاختراق لا يقتصر على النخب السياسية أو الإعلامية فحسب، بل يمتد إلى المنظومة التعليمية والأكاديمية. فالكثير من الجامعات الأميركية الكبرى، مثل هارفارد وكولومبيا وبرينستون، تخضع لضغوط مانحين كبار يموّلون كراسي «دراسات الشرق الأوسط»، بشرط واضح: ألا تُمنح هذه الكراسي لباحثين معروفين بمواقف نقدية تجاه إسرائيل.
وقد تم بالفعل إلغاء عقود ومحاضرات وأبحاث لمجرد أن أصحابها أبدوا تعاطفًا مع الفلسطينيين أو انتقدوا الاحتلال. وهذا ما دفع مفكرين كبارًا إلى الحديث عن «مكارثية جديدة» تستهدف كل من يحاول أن يكسر حاجز الصمت إزاء ما يرتكبه الكيان الصهيوني من جرائم.
معاداة السامية وتجار السلاح
وهنا نفتح ملفًا آخر لا يقل خطورة، وهو استخدام «اللاسامية» كسلاح لإسكات كل نقد، فبدلًا من أن يُفهم المصطلح في سياقه التاريخي والحقوقي، تم تحويله إلى أداة قمع فكري. بات من الممكن أن تُتهم بـ«معاداة السامية» لمجرد أنك انتقدت سياسات الحكومة الإسرائيلية أو رفضت دعم الاحتلال. وفي هذا التوظيف المغلوط، يتم تمييع المعنى الأصلي للمصطلح، وتجري مساواة النقد السياسي بالعقيدة العنصرية، وهو أمر لا يستقيم منطقًا ولا أخلاقًا. حتى المنظمات الحقوقية اليهودية التقدمية التي تعارض الاحتلال، مثل «يهود من أجل السلام»، أصبحت تتعرض لهجوم شرس من قبل اللوبيات الصهيونية، فقط لأنها لا تتماشى مع السردية الرسمية.
ومن جهة أخرى، هناك شبكات ضخمة من العلاقات المعقدة بين شركات السلاح الأميركية وإسرائيل. فصفقات التسليح الأميركية، التي تمنح سنويًا لإسرائيل بالمليارات، لا تخدم فقط تل أبيب بل تعود بالربح على الصناعات الحربية الأميركية التي تبيع الأسلحة وتُجربها على أجساد الفلسطينيين.
هذا النموذج من «الربح المتبادل» في الحروب، خلق تحالفًا بين المجمع الصناعي العسكري الأميركي والآلة العسكرية الإسرائيلية، على حساب دماء الأبرياء. بل إن بعض الدراسات تشير إلى أن الكيان الصهيوني تحوّل إلى مختبر حي لاختبار التكنولوجيا الأمنية الحديثة، من طائرات من دون طيار إلى برامج التجسس، قبل أن تُسوّق هذه المنتجات عالميًا بوصفها مجربة في «مكافحة الإرهاب».
في ظل ذلك كله، يتضح أن العلاقة بين أميركا والكيان الصهيوني لم تعد مجرد علاقة تحالف، بل أصبحت علاقة تبعية أحادية، حيث تدفع واشنطن فواتير سياسية وعسكرية وأخلاقية عن تل أبيب دون أن تجني بالمقابل سوى المزيد من العداء العالمي، والانكشاف الأخلاقي، والاحتقان الداخلي.
بل إن استطلاعات الرأي الأخيرة بين الشباب الأميركيين تُظهر تغيرًا ملحوظًا في المزاج العام، إذ بات كثير من الأميركيين، خصوصًا من الجيل الجديد، يرون أن بلادهم تنحاز بلا مبرر إلى دولة تمارس الاحتلال وتضطهد شعبًا بأكمله. هذا الوعي المتزايد قد يكون بداية لتفكيك شبكة النفوذ الصهيوني، ولكنه ما يزال في مراحله الأولى ويحتاج إلى وقت طويل وجهد منظم.
خديعة التطبيع
أمّا في العالم العربي، فإن هذا الفهم لتشابك المصالح بين الكيان الصهيوني وأميركا لم يعد تحليلًا نظريًا، بل صار جزءًا من الوعي الجمعي. الكثير من الأنظمة العربية أدركت أن الطريق إلى واشنطن يمر عبر تل أبيب، ولهذا سارعت إلى التطبيع العلني أو السري مع الكيان، أملًا في كسب الرضى الأميركي. وهذا ما يعمّق من اختلال ميزان القوى، ويزيد من عجز القضية الفلسطينية عن أن تجد لها ناصرًا من الداخل العربي، ما دام القرار الإقليمي مرتهناً للعاصمة التي تحكمها جماعات الضغط الصهيونية.
ومع ذلك كله، تبقى الحقيقة الساطعة التي لا يمكن للنفوذ ولا للدعاية أن يحجباها: أن هذا الاحتلال الصهيوني، مهما امتد ظله وتحالفت معه القوى العظمى، سيبقى مرفوضًا في ضمير الأحرار، وأن الحق الفلسطيني، الذي حُرم منه أهله بدعم من حكومة تُحرّكها مصالح ضيقة وشبكات نفوذ مشبوهة، سيظل حيًّا ما دام هناك من يكتب ويكشف ويواجه، ولو بكلمة.
*برلماني سابق وكاتب بحريني
أخبار سوريا الوطن١-الأخبار