آخر الأخبار
الرئيسية » مجتمع » كيف نقضي على الفقر؟

كيف نقضي على الفقر؟

علي الزعتري

لا تحتاج الدول كثيراً من الذكاء لتعلمَ أن الفقرَ يأتي بالتمرد عاجلاً وآجلاً. ذاك حين ينقسمُ المجتمعُ ما بين فقيرٍ وغنيٍّ في عالمين دون فرصةِ تجاوبٍ بينهما سوى سخطِ الفقير على الثري وسخطِ الثري على الفقير، كلٌ من منظوره. مظاهرُ الفقرِ واضحةً في المجتمعاتِ كما هي مظاهرُ الغِنىٰ، فالغلاءُ شديدُ الوطأةِ على أصحابِ الدخل المحدود وهناك مَنْ الألفَ عنده كالقرش. والحكومة والقطاع الخاص لا يمتلكان القدرة لتقليم الغلاء ولرفع الأجور بالقدر الذي يساوي في المعادلة التي دوماً ترفع التكاليف وتهوي بقيمة الأجور ويبقى ميزانها غير مستوىٍ. فماذا يفعل المواطن الفقير وما الذي يخشاه؟ خشيةً من الفقر يلجأ للمساعدات العائلية والخيرية والديون التي تزيدُ في غرقهِ المالي ولبيع مقتنيات والتقشف في المصاريف الكمالية ثم الأساسية وربما توقف الأطفال عن التعليم و دفعهم لسوقٍ لا يرحم طفولتهم. قد يتمكن المواطن أن يحاول زيادةَ دخله في عملٍ ثانٍ وهامشيٍّ لكن حظوظهُ لن تكون طيبةً على المدى البعيد. فبالإضافة لما يلزم من تصاريح للعمل، سيزدادُ الإرهاق المبذول لتحقيق الدخل الإضافي وسيقضي مزيداً من الوقت في عمله علي حساب عائلته و الصحة و بدلاً من تحسين وضع الأسرة قد تتدهور أحوالها. كلمةُ “مستورة” وصفٌ سيستخدم لكنه لا يدوم ولا يُشْبِعْ.

بالتوازي، عند الأثرياء بذخٌ وتبذيرٌ وشهواتٌ متأججةٌ لكل صرعة واقتناء كل جديد. لا يستطيع الغني أن يُخفي استمتاعه بالثروة. علاماتها هي البيت والسيارة والمطاعم والملاهي والنوادي والمهرجانات والسفر والتعليم الممتاز فكلها مظاهر فرحةٍ للغني و لكنها مصدرَ بؤسٍ للفقير. رويداً رويداً يتأصلُ الفالق العميق بين من يملك ومن لا يملك وبالتدريج تتعمق الحساسيات والشعور بالتهميش والرغبة في الغضب والتمرد والثورة.

تبقى من طبيعة الحياة أن يكون في المجتمع فقراء وأغنياء ومن الحكمة أن يفصلهما طبقةٌ من المفترض أنها أكبر من كليهما لكنها تعمل كجسرٍ ثنائي الاتجاه يسمح في الظروف العادية لحركةٍ بين الفقر وبين الاستقرار المعيشي في وربما تسلقاً للغنىٰ و أحياناً نزولاً من الثراء لها و لما دونها في حالاتٍ استثنائية. هذه الطبقة الوسطى هي التي تفرز للمجتمع بإيجابيةٍ راضيةٍ عمالتهُ المهنية والإدارية وتوازنهُ في فرض عاداتٍ وتقاليدٍ ومنظومةِ تعاملٍ مجتمعي مستقرةً. وما دامت تعمل فهي تُبقيهِ متفائلاً وتَعِدُهُ بالأحسن. وحين الأزمات العظيمة يُلاحظُ التوجه من هذه المنطقة الوسطى نحو الفقر ومن الغنية نحو الوسطى. وإن تتميز هذه الطبقة الوسطى بالصبر والتدبير و الحيطة ما دامت تستطيع التصرف بالمدخرات ضمن مدىً منظوراً ومحكوماً من قبل الدولة، ما يعطيها أملاً في التعافي و حلولاً لإعادة توازن المجتمع، فإنها، و قد مالت للاستقرار لسنواتٍ، ستبدأ بالتململ عند طول مدة الأزمة و تآكل مكانتها وأول علامات التململ هي الهجرة لبلادٍ قد تحتفظ فيها بملامح حياتها التي تعودت عليها. وهو ما شهدناه في كل بلاد الأزمات العربية.

إن الهدف الرئيسي من التنمية هو القضاء على الفقر، أو بمعنى أدق السيطرة على حجمه في المجتمع بأن لا يأخذ من حصة الطبقة الوسطى للحدِّ الذي يجعلها هامشيةً وهو هدفٌ ممكنٌ في ظروفِ تنميةٍ مواتية فإن مجتمعاً ليس فيه فقراء قد يكون مستحيلاً. ومجتمعٌ ليس فيه طبقةٌ وسطى هو مجتمعٌ مصطنعٌ مُتأينٌ لعنصرين قابلين للاشتعال، فقيرٌ غاضب وغنيٌ غائب. الفقير يشتعلُ بالنقمة والغني ينفعلُ بالبهجة.  واجب الدولة المقدس هو في موازنةِ المعيشة للسكان وتمكينهم من الحصول على خدماتٍ كريمةٍ وحظوظاً في الرُقي المعيشي مع أقل التفاوتات بين المواطنين. واجبها أن تحافظ على أقل نسبة من السكان فقراء وأغنياء وبينهما طبقةٌ وُسطى عميقةٌ ومستقرة وكبيرة. واجبها هذه الدولة هو خدمة الفقير وتكريمهِ ولجم الغني وشطحاتهِ وبناء الطبقة الوسطى لتكون مفتاح ومحرك التنمية.

لكن السياسات الاقتصادية القارصة وقصور شبكة الضمان الاجتماعي وتقهقر فرص العمل لا تساعد في أحيان كثيرة لخلق مثل هذه البنية لبيئةٍ مجتمعيةٍ صحيحةٍ وصحية وغير قادرة لأسباب متعددة على تضييق الفجوة الغائرة بين شقاء الفقر وفاحش الغنى أو الحفاظ على الطبقة الوسطى. وبقدر ما نستطيب في بلادنا توفير الخدمات الحديثة ومظاهر التمدن بقدر ما نقول أننا نعيش بالتوازي زيفاً مغطىً بالمديونية علي المستوى الفردي و تبذيراً مضراً غير منتج و استهلاكيٌ محض يستنزفُ المواطن نفسياً و مادياً و يؤين المجتمع لفقيرٍ غير قادر وغني غير مبالٍ بالفقر، و لا يرى في إظهار الثراء عيباً أمام أعين و أفواه لا تنال مثلما ينال. كما أن انتشار المراتع اللا أخلاقية لا تقود لزيادة الدخل جراء زيادة أعداد السياح الراغبين بهذه المبتذلات ولا توفير العمالة بل هي أخطر ما يكون لتجذير أسوأ الأخلاق و ما يتبعها من موبقات مجتمعية و صحية نقرأ عنها يومياً. عدا عن أن الشعور بالاغتراب في مجتمعٍ منقسمٍ بحدة وإصرار بين فقير و غني يقود بالضرورة لتبني آراء متطرفة تخلخل بنية المجتمع و الدولة وتتطور عنفاً لا تُحمدُ عقباه. وليست الآراء المتطرفة حِكراً على الإرهاب الذي يتخذ الدين مبدأً بل هي تشمل التدهور نحو المخدرات والانحلال الأخلاقي. وكذلك انتشار العنف غير المبرر في غير مكانهِ وانتشار الفوضى والعشوائية والفساد بأشكاله.

إن العقل يقول أن كبح التبذير الحكومي و البذخ الأهلي وتعزيز الخدمات المجتمعية و تضييق مظاهر التفاوت المجتمعي عبر اقتصاد منتج و تصحيح مفهوم السياحة و تصويب التوجه الأخلاقي هي ضروريات أساسية للبقاء. إنها باختصار بعض مبادئ خطة التنمية الصحيحة المستدامة بالعدالة المجتمعية.

دبلوماسي أُممي سابق

 

سيرياهوم نيوز 4-راي اليوم

x

‎قد يُعجبك أيضاً

هكذا نخفف من قلق أطفالنا وتوترهم خلال فترة الامتحانات

تعدّ فترة الامتحانات من أكثر الفترات توتراً وضغطاً على الطلاب، حيث يتعرضون للضغوطات النفسية والمدرسية نتيجة التحضير للامتحانات والضغط لتحقيق النجاح. ويرى الخبراء أنه يقع ...