علي عبود
لاتوجد أحزاب سياسية تجيد التنظير المنطقي والديالكتيكي مثل أحزاب اليسار العربي بمختلف مسمياتها ومتدرجاتها (الإيديولوجية والعلمانية والقومية..الخ)، لكن هذه الأحزاب على مدى العقود الماضية لم تتمكن من تحويل نظرياتها وديالكتيكياتها ولا حتى تصريحاتها الإعلامية إلى أفعال ملموسة منذ ثلاثينات القرن الماضي!
الكل يردد بأن لكل قاعدة شواذ أو استثناء، ومع ذلك فإننا لم نجد أي حزب يساري أو قومي شكّل استثناءا بوصوله إلى السلطة في أيّ بلد عربي، سواء بفوهة البندقية، أو عبر صناديق الإقتراع.
لقد تابعت مؤخرا مقابلة مع رئيس حزب يساري عريق سابق أجاد التحليل النظري والمنطقي والواقعي، استنادا إلى معلومات ومعطيات ووقائع لما جرى ويجري وسيجري من أحداث سياسية محليا وإقليميا وعالميا، لكنه لم يشر بكلمة واحدة إلى تمكّن حزبه من لعب دور مؤثّر وفاعل في أيّ حدث وقع في المنطقة عبر العقود الماضية، ولو بفوز مقعد واحد في البرلمان!!
لم يتمكن اليسار العربي في حقبة نفوذ الإتحاد السوفييتي السابق، مثلما لم يتمكن أيّ حزب قومي في حقبة الناصرية من الوصول إلى السلطة في أيّ بلد عربي، أو بزيادة وجوده وتأثيره في المجتمعات العربية على الأقل، وإن كان هناك إستثناءات فعن طريق الإنقلابات العسكرية وليس الديمقراطية، والحزب لم يكن في هذه الإستثناءات سوى مطية مؤقتة تبخّر معها الحزب بسرعة مع تحول الإنقلابيين إلى سلطة ديكتاتورية واستبدادية شاملة!
يُبرّر قادة اليسار العربي (المؤدلجون والقوميون) إخفاقهم وانعدام تأثيرهم في مجتمعاتهم تارة باضطرارهم للعمل سرا في الأنظمة الشمولية والديكتاتورية خلافا للقوانين النافذة، وتارة أخرى لانعدام الحياة السياسية في حال كانت أحزابهم مرخصة بفعل قيام الأنظمة العربية بمصادرة الرأي الآخر ومنعه بالقوة، وبزج أصحابه في غياهب السجون!
نعم، قادة اليسار العربي محقّون، فلا دور ولا تأثير لهم في الأنظمة الديكتاتورية والقمعية، ولا يستطيعون إحداث أي تغيير في المشهد السياسي في بلادهم وتغيير اتجاهات الرأي العام، ولكن السؤال: هل ستنجح أحزاب اليسار العربي العابرة للقوميات والإثنيات والطوائف في الدول التي تستطيع العمل السياسي فيها بحرية مثل كل الأحزاب الأخرى بمختلف مسمياتها واتجاهاتها وسياساتها اليمينية..الخ؟
حسنا، الأحزاب اليسارية لاحول ولا قوة لها بتغيير جذري في المجتمعات الخاضعة لأنظمة حكم شمولية وديكتاتورية، ولكن ماذا عن عدد كبير من الأحزاب اليسارية والقومية والعلمانية المرخصة في لبنان التي لم يكن لها أيّ فعالية تُذكر على مدى عقود وبعضها ناشط منذ ثلاثينات القرن الماضي؟
في لبنان الذي فيه (الكثير من الحرية والقليل من الديمقراطية) على حد تعبير رئيس الحكومة السابق الراحل المخضرم الدكتور سليم الحص، لم يتمكن أي حزب يساري (شيوعي وقومي وناصري) من اختراق المشهد السياسي واستثمار (الكثير من الحرية) للتأثير في المجتمع اللبناني وتحويله من طائفي ومذهبي وإقطاعي إلى مجتمع علماني ديمقراطي يختار الأحزاب اليسارية بديلا عن الأحزاب الطائفية منذ ثلاثينات القرن الماضي!
كانت المحاولة (اليتيمة) لإحداث تغيير جذري في تركيبة المجتمع اللبناني الطائفية قيام الحزب السوري القومي الاجتماعي بانقلاب عسكري في مطلع ستينات القرن الماضي كان مصيره الفشل السريع بعد ساعات من إنطلاقاته، ولو قُيّض له النجاج لكنّا ربما أمام أول تجربة ناجحة لحكم ديمقراطي علماني في المنطقة!
بعدها، لم يُحقق اليسار العربي أيّ اختراق في المجتمع اللبناني الطائفي والمذهبي، مايؤكد إن المسألة ليست في الديكتاتورية التي تمنع الحياة السياسية الحزبية، وليس في (الكثير من الحرية) المفتوحة أمام العمل السياسي، وإنما في عجز اليسار العربي عن تحويل نظرياته وإيديولوجياته إلى برامج سياسية مغرية أو بديلة عن الخطابات العنصرية للأحزاب الطائفية والمذهبية الأخرى، والسؤال: ماالذي يجعل المجتمع اللبناني أسير الأحزاب المذهبية منذ ثلاثينات القرن الماضي ويقوم بتجديد أنتخاب ممثليها إلى مجلس النواب دورة برلمانية بعد الأخرى، ويرفض إنتخاب ممثلي اليسار سواء الشيوعيين أو القوميين او الناصريين أو الإجتماعيين!؟
المسألة بمنتهى البساطة: إما أن يقوم اليسار بالإستيلاء على السلطة بفوهة البندقية أو من خلال صناديق الإقتراع التي لايمكن تحقيقها إلا بتغيير قناعات المجتمع، وعندما يخفق اليسار بفعل أحدهما منذ استقلال الدول العربية عن الإستعمار الغربي، فهذا يؤكد إن فعاليته صفر مكعب مع درجة الإمتياز!!
الخلاصة يقول الكاتب اللبناني بدر الحاج إن كثيرين ممن ادّعوا العروبة واليسار، وكانوا الأكثر تطرّفاً، تحوّلوا بعدما هبط (الوحي) عليهم إلى مجرد أدوات رخيصة في يد من أوصلهم إلى مناصب كانوا يحلمون بالوصول إليها. تخلّوا عن كل ما كانوا يدّعونه، وحقّقوا أمنياتهم الدفينة في أعماقهم وأصبحوا من الحكّام.
(موقع أخبار سوريا الوطن-١)