كمال خلف
طوال خمسة اشهر من جبهة القتال الصعبة بين المقاومة في لبنان وإسرائيل تراوحت وتيرة الميدان بين المواجهات على حافة الحدود، والقفز بين الفينة والأخرى على قواعد الاشتباك نحو العمق والعمل العسكري النوعي، ومع كل تخطي خطير لنمط القتال، تبرز الآراء والاصوات على جانبي الحدود في لبنان وإسرائيل على حد سواء لتقول ان الحرب الشاملة اقتربت. بل ذهب بعض المراقبين في تحليله للمشهد لتوقع حتمية الحرب الكبرى، واحتمالات اندلاعها في غضون أيام. وتغص وسائل الإعلام اللبنانية والإسرائيلية بالعناوين المثيرة حول الحرب واندلاعها، ويجنح المتحدثون نحو التأكيد والجزم بالحرب، اعتمادا على وتيرة الميدان وتصاعد نوعية الاستهداف، والتهديدات عالية السقف من قادة الاحتلال الإسرائيلي، مقابل ردود حاسمة بالاستعداد لكل الاحتمالات من قبل قادة المقاومة في لبنان.
على الجانب الإسرائيلي كان اعلان القناة ١٣ العبرية أنّ “الجيش الإسرائيليّ يُجهّز خطة محتملة لاجتياح لبنان برّاً”. دليلا على مصداق الرأي المرجح للحرب، ليس هذا فقط، فتحت عنوان “إنذار إسرائيلي: اتفاق سياسي بحلول 15 آذار أو الحرب”، قال موقع ” ماكو الإسرائيلي ان تل ابيب أبلغت عواصم غربية بانها ذاهبة الى الحرب بعد هذا التاريخ مع لبنان اذا فشلت الجهود الدبلوماسية في ابعاد حزب الله عن الحدود. عاودت إسرائيل سحب هذا التصريح ونفيه، رغم ذلك وجد صدى كبير في الأوساط الإعلامية والسياسية اللبنانية. وتم اعتباره تأكيدا للمؤكد بان الحرب واقعة لا محالة. ولا يخلو يوم من مشاهدة معلقين لبنانيين على شاشات التلفزة المحلية او على المنصات الإعلامية في وسائل التواصل يعلنون عن استنتاجات من هذا النوع.
كنت وقبل حوالي ثلاثة اشهر اعتنق رأيا مخالفا، واعلن عبر هذا المنبر الحر ان لا حرب كبرى على لبنان، وما زلت عند هذا الرأي، بل اكثر تمسكا فيه، وان بدى سابقا رأيا يعاكس التيار وضجيج الحرب، والان هو كذلك وربما اشد.
واعتقد ان اغلب التحليلات لإعلاميين وسياسيين في لبنان بشكل خاص، تنطلق من قراءة الوقائع بناء على امرين أساسيين : الأول مراقبة وتيرة الميدان، وهي وتيرة مقلقة وخطرة وتقترب من حافة الحرب بشكل كبير، والثاني الاعتماد على التصريحات العالية النبرة، وخاصة التهديدات الإسرائيلية حول نفاد الصبر، وفشل خيار التفاوض الدبلوماسي عبر الوسطاء الغربيين والذين بدورهم يتحدثون مع نظرائهم اللبنانيين بلغة قادة إسرائيل، محذرين من الحرب الشاملة اذا لم يستجب الجانب اللبناني لطلبات إسرائيل.
برأيي ان الاعتماد على هذين العاملين رغم اهميتهما غير كاف لبناء استنتاج وبناء تقدير موقف حول اندلاع الحرب الشاملة. ولابد من الحكم على ميدان متوتر ويشهد اعمالا عسكرية متبادلة يمكن ان ينتقل الى حالة المواجهة الشاملة، ان نلحظ المحيط الإقليمي في القوس الاوسع من نقطة التوتر. وان ندرس البيئة السياسية والأمنية والمصالح المتشابكة للأطراف المعنية والفاعلة وليس فقط لوتيرة القتال.
سبق ان اشرت في مقال سابق للأسباب الموضوعية التي تخص إسرائيل نفسها، وتلك التي تتعلق بحزب الله في الاستنتاج ان كلا الطرفين ليس له أي مصلحة في الذهاب الى الحرب في هذا الوقت. ولا اريد ان اكرر ما كتبته هنا وما قلته في مقابلتين خلال الأشهر الماضية لمنصات محلية لبنانية متابعة من الجمهور ومهمة، حول أسباب إسرائيل الذاتية، ودوافع الحزب لعدم الانزلاق الى الحرب، رغم الاستعداد لها.
بناء التصور هنا للذهاب نحو نفي وقوع الحرب، هو النظرة الشاملة خارج نطاق نقطة التوتر على الحدود. اذ وجوبا علينا ان نلحظ وضع الإدارة الامريكية وتوجهاتها، وهو وضع يكشف عن سياسية مانعة للحرب مع لبنان، ولهذه الرغبة الامريكية تأثيرها الكبير في إسرائيل، التي لن تذهب للحرب دون مراعاة مصالح الحليف العضوي، والحصول على بطاقة خضراء منه وهذا لن يحصل في عام انتخابي، ولن يحصل في وضع دولي نابذ للحرب ومتباين ربما لأول مرة بهذا الشكل الواضح مع المقاربة الامريكية الداعمة بلا حدود لإسرائيل في حرب الإبادة البشعة في غزة. وليست الممانعة الامريكية نابعة من حرص على لبنان، فواشنطن لديها ذات الرغبة الإسرائيلية في القضاء على حزب الله، لكن الحرب الان تضر بالولايات المتحدة ومصالحها، وتصب في مصلحة خصومها على المسرح الدولي ” الصين وروسيا “. وتضر بإدارة بايدن، وبحملته الانتخابية، لصالح منافسه دونالد ترامب.
أيضا لزاما النظر الى البحر المتوسط المتأثر الأقرب عند اندلاع الحرب، وحاجة أوروبا للنفط والغاز المتدفق من شرق المتوسط، كبديل عن خطوط الامداد الروسي، سيكون تدفق الطاقة من المتوسط اول ضحايا الحرب ان وقعت. ومنصات حقل كاريش الإسرائيلية ستختفي تحت أمواج البحر.
بالمقابل هناك رغبة إيرانية معلنة في عدم توسيع رقعة الحرب تتقاطع مع الرغبة الامريكية، وهناك أجواء تسويات قابلة للتحقق في عموم المنطقة، نقطة الارتكاز فيها والمدخل اليها وقف حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني في غزة أولا.
اذا اتجاه السياسات العامة لاطراف فاعلة إقليمية ودولية هو تقليص الحرب، والعمل على انحسارها وليس توسيعها واشعال المنطقة كلها، والذهاب نحو المجهول. وبالتالي لا توجد بيئة إقليمية او دولية مساعدة على الحرب.
القتال لخمسة اشهر متواصلة دون انقطاع على طرفي الحدود، والقفز بشكل خطير على قواعد الاشتباك عند الحدود نحو العمق، وإذ كان يستخدم كدليل اثبات على ارتفاع احتمال تدحرج الوضع نحو الحرب، فانه بذات القدر يمكن ان يكون دليلا على عكس ذلك، فاذا كانت الحوادث الخطيرة سواء عمليات حزب الله الموجعة والنوعية، او العدوان الإسرائيلي والاغتيالات وضرب العمق اللبناني طوال شهور لم يكن سببا للتدحرج نحو الحرب، فما هو الحدث الأكبر الذي سيشعل شرارة الحرب ؟
مسار المفاوضات بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل حول وقف القتال في غزة، يحكم طرفي الحدود الشمالية ” إسرائيل وحزب الله ” بوجوب الانتظار، والبقاء عند وتيرة القتال الراهنة. الطرفان يدركان ان الجبهة مرتبطة بمصير مآلات الوضع في غزة.
وخلاصة القول ان ثمة تهويل في الجزم بان الحرب واقعة، وان موعدها قريب، وان اندلاعها حتمي. المقاومة في لبنان استعدت وجهزت ما يلزم الحرب، وفقد أي هجوم إسرائيلي اهم عنصر في الحرب وهو عنصر المفاجأة.
بالمقابل فأن نفي الحرب يعتمد على المعطيات المتوفرة بين أيدينا والظاهرة امامنا، وربما لا نملك كل المعطيات. لكن الأيام القادمة كفيلة بحسم المشهد.
سيرياهوم نيوز 2_راي اليوم