*عبد اللطيف شعبان
من الملفت للانتباه هذا التهافت الكبير المتصاعد باتجاه التجارة منذ سنوات، والذي تصاعد أكثر في السنوات الأخيرة، ولا زال يتصاعد في أيامنا هذه، نتيجة الدخل المضمون والمتصاعد للعمل التجاري، في ظل التعدد الكبير للسلع والتنوع المتعدد من كل سلعة، وضعف دور وزارة التجارة الداخلية في الرقابة وضبط الأسعار ما يسمح بربح فاحش يحققه الكثير من التجار وخاصة في السلع غير الغذائية، قياسا بالدخل المتغير( بل والخاسر أحيانا ) الناجم عن العمل الزراعي والصناعي والحرفي والتربية الحيوانية.
لم تعد المنشآت التجارية مقتصرة على المدن بأحيائها الكبيرة، بل تعم المحلات التجارية المتنوعة المواد، جميع أحياء أية مدينة، ولم تعد تقتصر هذه المحلات على القرى الكبيرة، بل يندر أن تخلو مزرعة صغيرة من محل تجاري وأكثر، ومنذ عشرات السنين والأكشاك تتزايد على أرصفة شوارع وساحات المدن، إضافة إلى آلاف البسطات الثابتة أو المتحركة، وتسبب ذلك في إقدام الكثير من أبناء الريف على هجران حيازاتهم الزراعية وبيع مواشيهم والعمل في تجارة الأكشاك والبسطات، والهدم الأخير الذي تم وما زال يطال الكثير من هذه الأكشاك، إضافة إلى الحد من البسطات، أوقع عشرات آلاف الأسر في خسائر كبيرة، إذ تم حرمانهم مما اعتادوا عليه تجاريا لسنوات، ولم يعد بإمكانهم العودة إلى ماضيهم في العمل الزراعي ، فبعضهم باع أرضه أو أن إهمالها لسنوات أضعف من قدرته على استصلاحها مجددا بسبب الارتفاع الكبير في نفقات الاستصلاح والزراعة.
رغم الغلاء المتصاعد لجميع المواد وشكوى الكثيرين من ضعف الدخل وشكوى العديد من التجار من قلة التسوق لا زال انتشار العديد من المحلات التجارية الجديدة بما في ذلك المتخصصة بالمشروبات بأنواعها أو المنظفات بأنواعها، أو تجارة التبغ بأنواعه أو الأركيلة بتنوعها وتنوع لوازمها، بعد أن كان من المفترض أن تتقلص هذه التجارة بسبب ما سبق صدوره من قرارات بشأن الحد من التدخين، وبسبب الغلاء الكبير للدخان بأنواعه ولمستلزمات الأركيلة بأنواعها، بل وانتشرت محلات التخصص في تجارة الفحم رغم مخاطر ومحاذير قطع الأشجار وخاصة الصغيرة التي يصنع منها فحم الأركيلة .
هذا على مستوى التجارة الداخلية، والحال نفسه بل وبتزايد متتابع وملحوظ في ازدياد التجارة الخارجية، حتى أن العديد من الصناعيين خفضوا أو أوقفوا صناعتهم ولجؤوا إلى التجارة الخارجية (الاستيراد )، تحت حجة– وهذا واقع – أن أرباحهم تتحقق أكثر في حال استوردوا بدلا من أن ينتجوا، ولا زال بعضهم يعمل ويصرّح بذلك، وغاب عن ذهنهم أن هذه السياسة هادفة / ملغومة / من المنتج الأجنبي لغاية الحد من الإنتاج المحلي، فتوريد المنتج الأجنبي للعديد من منتجاته بسعر الكلفة وربما بخسارة لسنوات، أضعف أو أوقف إنتاج مثيلها أو بديلها محليا، وعلى الأغلب تخربت مؤسسات إنتاجها المحلية أو زالت من الوجود كلياً بحيث أصبح من الصعوبة بمكان استعادة الإنتاج المحلي،وعندما تحقق المنتج الأجنبي من واقع وصعوبات المنتج المحلي، رفع أسعار منتجاته بشكل كبير، ومثله فعل التاجر المستورد، والأمثلة على ذلك كثيرة وأبسط مثال هو شعالة الغاز المستوردة التي دخلت على بلدنا بأقل من سعر الكبريتة – التي كانت تنتجها معاملنا- وبقي سعر شعالة الغاز متدنيا جدا لسنوات حتى توقفت صناعة الكبريت عندنا كلية، والآن أصبحت شعالة الغاز بمئات أمثال سعرها السابق – بل وبجودة أقل عن سابقاتها – والكبريتة غير موجودة.
أيضا التهافت الكبير على بناء المحلات التجارية، رغم وجود كثير من القديم المغلق تسبب بأن الآلاف الجاهزة من هذه المحلات في كل محافظة غير مستثمرة، عدا الآلاف التي لم يتم إكمالها، ما كان منها في شوارع المدن أو القرى أو على الطرقات العامة، والأغرب من ذلك أنه يتم سنويا بناء آلاف المحلات التجارية الجديدة، فقبل أيام مررت في شارع مدينة صغيرة ورأيت بناية كبيرة قديمة طابقية، مؤلفة من ثلاثة طوابق تحت أرضي وطابق أرضي وكل طابق بمسربين من المحلات ، وكل مسرب ب / 14 محل يمين ويسار / وجميعها غير مستثمرة، وعلى مقربة منها بناية قديمة مماثلة، ومع ذلك تم إنشاء بناية جديدة قريبة تحوي عشرات المحلات، وأيضا لم يتم استثمار أي محل منها حتى تاريخه ومثل ذلك الكثير من البنايات السكنية ( من شقق جاهزة أو على الهيكل ) في الكثير من المدن وحتى في بعض قرى الريف ولكنها غير مستثمرة ولا زال البناء الجديد مستمرا.
هذا التهافت الكبير على التجارة والبناء تسبب في تجميد آلاف مليارات المال الخاص بعيدا عن الإنتاج السلعي المطلوب، والحكومة غائبة عن اتخاذ أية إجراءات باتجاه ترشيد استثماري إنتاجي للمال الخاص، بل كثيرا ما شكا العديد من رجال الأعمال من صعوبات ومنغصات تعرضوا لها عند الإعداد لمشروع استثمار إنتاجي، وبعضهم عزف بعد أن قطع شوطا كبيرا في الإعداد، وتحمل خسارة ما أنفقه تجنبا لعواقب لاحقة يراها أسوأ، وبعضهم لم يقدم بعدما رأى معاناة من سبقه.
فالمصلحة الوطنية تقتضي ولدرجة كبيرة بضرورة أن تعمد الحكومة لإصدار تشريعات وتعليمات، واتخاذ إجراءات تحد من العزوف الكبير باتجاه مليارات المال الخاص للتجارة والبناء التجاري والسكني، وتحفيزها باتجاه الاستثمار الإنتاجي السلعي، ومن الخطأ الكبير أن يتواكب قصور الحكومة أو تقصيرها في تخصيص جزء كبير من موازناتها للاستثمار الإنتاجي السلعي في القطاع العام، مع قصورها أو تقصيرها في تحفيز رأس المال الخاص في هذا الاتجاه، واستمرار الحال على ما هو عليه يسبب انخفاض كمية الإنتاج المحلي وارتفاع أسعاره مايظهر الحاجة للمزيد من الاستيراد، ما يفسح المجال لتساؤلات وتساؤلات ؟؟؟ وربما لشكوك!!!…
فالقطاع الخاص يحتاج لمنظم حكومي يدفعه ويشجعه باتجاه الاستثمار الإنتاجي لأمواله، لا من يقصيه |إلى مزيد من الانحسار بعيدا عن هذا الاستثمار المطلوب، وليستفيقوا من غفلتهم وليرعوا من غيّهم أولئك الذين نادوا بالحد من الدور الأبوي للدولة الذي هو حاجة وطن ومواطن.
*الكاتب عضو في جمعية العلوم الاقتصادية السورية
(خاص لموقع سيرياهوم نيوز 2)