رأي حسام عبد الكريم
يُعدّ الشيخ محمد متولّي الشعراوي أبرز نجوم العهد الساداتي في السبعينيات، بل يكاد يكون الأبرز على الإطلاق، لا يباريه في الظهور والانتشار سوى الدكتور مصطفى محمود، صاحب برنامج «العلم والإيمان». برامج الشيخ الشعراوي كانت تُبثّ عبر التلفزيون الحكومي الرسمي بشكل مكثّف، حتى غدا الرَّجل علماً مشهوراً امتدّت شعبيته إلى بقيّة الدول العربية أيضاً. وصل الأمر، في عام 1980، إلى حدّ أنه كان يَظهر مرّتين يوميّاً على شاشة التلفزيون المصري! فبرامجه «نورٌ على نور»، «خواطر إيمانية» و«لقاء الإيمان»، كانت تحظى بمتابعة منقطعة النظير على المستوى الشعبي، ويقدّم من خلالها تفسيراً عامياً مبسّطاً لآيات القرآن يناسب قطاعاً واسعاً من المجتمع المصري، خصوصاً مع أسلوبه المميّز وحركاته وخفّة ظلّه ولجوئه إلى ضرْب الأمثال الشعبية، بعيداً من جمود الفقهاء ورصانتهم البالغة.
في ذلك الزمان، كان التلفزيون (الأرضي) الحكومي هو الوسيلة الأهمّ والأقوى في التأثير على الرأي العام وصناعة التوجّهات في المجتمع. لم تكن هناك فضائيات ولا وسائل تواصل اجتماعي ولا «غوغل» ولا «يوتيوب»، فكان تلفزيون الدولة يلعب دوراً يناظر تأثيرها كلّها في أيّامنا. لم يكن ممكناً أن يحظى الشيخ الشعراوي بهذا الظهور المكثّف والاستثنائي على شاشة التلفزيون الحكومي، لولا أن «إرادة عليا» تقف وراء ذلك، إرادة «الريّس» دون غيره. والسادات طبعاً كان يَعرف تماماً ما يريد، وكذلك الشعراوي.
الردّة الساداتية عن سياسات جمال عبد الناصر كانت شاملة وجذريّة. وجد «الرئيس المؤمن» نفسه في حاجة إلى المساعدة لإتمام التحوُّل الشامل الذي ينوي تنفيذه في مصر. الشعراوي كان يؤدّي دوراً مهمّاً في إضفاء صبغة إسلامية على النظام الساداتي، في مقابل «شيوعية» جمال عبد الناصر! أبرز تجلّيات هذا الدور، ظَهر في تصريح الشعراوي الشهير حول سجوده لله شكراً لهزيمة مصر في حرب 1967، مبرّراً ذلك: «فرحتُ أنّنا لم ننتصر ونحن في أحضان الشيوعية، لأنّنا لو نُصرنا ونحن في أحضان الشيوعية لأُصبنا بفتنةٍ في ديننا»، مقارناً ذلك بحرب أكتوبر 1973، بقيادة السادات، التي «استهلّت بشعار الله أكبر».
هل يعني ذلك أن الشعراوي كان معارضاً لنظام عبد الناصر؟ أبداً. الرَّجل لم يُسمع له صوت أبداً في معارضة أو حتى نقْد جمال عبد الناصر من قريب أو من بعيد طوال فترة حكمه. بل على العكس، كان الشعراوي موظّفاً رسميّاً في وزارة الأوقاف المصرية، ومن ثمّ في الأزهر، وتولّى مناصب محترمة مِن مِثل، «مدير مكتب شيخ الأزهر»، ثم مندوب الأزهر في الجزائر لعدّة سنوات. وعندما توفّي جمال عبد الناصر، عام 1970، رثاه الشعراوي في مقال طويل، قال فيه: «وضع البطل جمال بصماته الإنسانية على التاريخ المعاصر، ولذلك لن تجرؤ قوّة فى الأرض أن تزحزح المظلومين عمّا لقّنهم جمال من مبادئ للإباء على الضمير والانتفاض على الظلم والنهضة إلى الآمال الواسعة الوارفة، ولن تستطيع أيّ قوّة فى الأرض أن تسلب المكاسب التى أدّتها إنجازاته، ولا أن تحجب الآفاق التي أعلنتها تطلعاته». طبعاً، لم يكن الشيخ الشعراوي يعلم الغيب، ولم يعرف يومذاك بنيّة خليفة عبد الناصر ونائبه الانقلاب عليه وعلى كل ما يمثّله، ولذلك كتب ما كتب.
دافع الشعراوي عن معاهدة «كامب ديفيد» بكلّ قوّة وحسْم، بل وهاجم العرب من خصوم السادات
عهد السادات كان مليئاً بالأحداث الجسام، بدءاً من الضغط الشعبي في اتجاه خوض الحرب مع إسرائيل، مروراً بالحرب الفعلية عام 1973 وعبور القناة وثغرة الدفرسوار، والمفاوضات المكثّفة مع كيسنجر، وزيارة نيكسون لمصر عام 1974، والتقارب مع شاه إيران، والانفتاح على أميركا. وفي لحظة ذروة الردّة الساداتية عند زيارة القدس المحتلّة عام 1977، كان الشعراوي يومها عضواً في الحكومة المصرية بعدما عيّنه السادات وزيراً للأوقاف قبْلها بعام. ومع إنجاز معاهدة «كامب ديفيد» واتفاقية السلام المنفرد بين مصر وإسرائيل، والخلاف بين السادات وبقية الدول العربية، لم يَصدر عن الشيخ الشعراوي أيّ فعل أو قول معارض للسياسة الساداتية على الإطلاق. وحتى عندما اندلعت انتفاضة الخبز من أقصى شمال مصر إلى جنوبها احتجاجاً على تدهور الأوضاع في البلد، بقي الشيخ صامتاً.
لم يكتفِ الشيخ الشعراوي بالسكوت على سياسات الردّة الساداتيّة، بل انتقل إلى الدفاع الفاعل عن الرئيس السادات وسياساته. في 20 آذار 1978، وفي جلسة لمجلس الشعب المصري، وصل الشعراوي إلى ذروة النفاق والتزلُّف للسادات، إلى حدّ خلْع صفة إلهية عليه! ففي معرض جدال ساخن واستجواب يتعلّق بأحد المقرّبين من السادات، توفيق عويضة، انبرى الشعراوي منفعلاً للدفاع عن الرئيس، قائلاً: «والذي نفسي بيده لو كان لي من الأمر شيء لحكمتُ لهذا الرجل الذي رفعنا تلك الرفعة وانتشلنا ممّا كنّا فيه إلى قمةٍ، ألا يُسأل عمّا يفعل»! وفي مناسبة أخرى، تحدّث الشعراوي عن «شجاعة السادات»، مبرّراً له تقاعسه عن مواجهة العدو، فقال: «ربّما تقتضيك الشجاعة أن تجبُن ساعة»، مضيفاً أن السادات الذي قال إنه لا يقدر على محاربة أميركا وإسرائيل، «معذور»، وأن موقفه ليس جُبناً بل شجاعة من نوع راقٍ! لأنه تجنّب أن يَدخل حروباً فينهزم فيها وليس مثل الذي «يتنّح ويقف، ويسبّب الندامة»، مشيراً إلى عبد الناصر.
ودافع الشعراوي عن معاهدة «كامب ديفيد» بكلّ قوّة وحسْم، بل وهاجم العرب من خصوم السادات. فقد سألته جريدة «القبس» الكويتية عن رأيه في اتفاقية السلام، وعن الفتوى التي تبيح للنظام السياسي القائم بالجنوح نحو السلم، وإنْ كان يعتقد أن السلام مع إسرائيل على طريقة «كامب ديفيد» قرار سليم؟ فأجاب جواباً قويّاً خالياً من التردّد: «نعم»! وأضاف كلاماً معناه أن الذين عارضوا خطوات السادات السلميّة، لم يكن موقفهم على أساس ديني، وكذلك سياسة السادات لم تكن على أساس ديني، فالحالان سيّان إذاً، ولا يحقّ لهم أن يلوموه، أو بحسب تعبيره: «الأساس الذي دخلنا به (القضيّة الفلسطينية) فكر بشر لبشر، والأساس الذي خرجنا منه فكر بشر لبشر. فمن جعل فكر البشر في الدول الرافضة (للسلام معه إسرائيل) أَولى من فكر الدول القابلة؟»، ثم أضاف، مردّداً الدعاية الساداتية: «أنا الذي أدفع الثمن، أنا الذي لا يوجد عندي بيت إلّا وفيه ضحايا وفيه دم، أما هؤلاء – يقصد بقيّة العرب – فلم يعملوا أيّ شيء، فالذي عليه التعب هو الذي يعمل هكذا حتى يحمي نفسه!… والناس الذين يهوّلون المسألة ماذا صنعوا؟ ماذا صنع الرافضون من يوم توقيع الاتفاقية إلى يومنا هذا؟».
وامتدّ الانسجام الشعراوي – الساداتي ليَشمل التوجّهات الأخرى التي ميّزت عصر السادات، ومنها موضوع البنوك، والانصياع للتوجّهات السعودية التي بدأت أيّام الملك فيصل «لأسلمة» البنوك، حيث كان الشيخ الشعراوي من الداعمين الأوائل لتأسيس أول بنك إسلامي «لا ربوي» في مصر، وهو «بنك فيصل»، كما كان من الداعمين لشركات توظيف الأموال «الإسلامية» في مصر.
ونختم بما قاله الشعراوي بعد مقتل السادات: «من العجيب أن اغتيال السادات قد فرح به الأغبياء من خصومه! وأنا قلت لهم: فرحكم باغتياله حُمق، لأن السادات كانت له حسناته، كما كانت له سيئاته أيضاً قبل ذلك. فأراد الله أن يغفر سيئاته الماضية بحسناته التي فعلها الآن، فقال له: مُت شهيداً، لكي تصبح كما ولدتك أمك مطهّراً من ذنوبك».
سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية