زحمة تدخّلات دبلوماسية تُخيّم على السياسة في لبنان. السفيرتان الأميركية والفرنسية في الرياض في مهمّة تتعلق بتأليف الحكومة اللبنانية، والسفير السعودي في بكركي يعظ بكيفية تطبيق الدستور، والسفير بيار دوكان يدور على المسؤولين رافعاً حذاءه إلى أعلى ما يستطيع في وجه الدولة. وكل ذلك يقترن بقرار سياسي داخلي بترك البلاد تنحدر أكثر فأكثر في طريق الانهيار. أداء فتح شهيّة الفرنسيين على العودة إلى الانتداب. صدر ذلك في توصية رسمية أعلنتها لجنة نيابية فرنسية أمسليس مهمّاً مضمون الحديث الذي دار أمس بين وزير الماليّة غازي وزني، والسفير الفرنسي المكلف تنسيق المساعدات الدولية في لبنان، بيار دوكان. فالصورة التي نشرها وزني نفسه أوحت بأن دوكان لم يكن يعبّر بلسانه، بل بحذائه الذي رفعه في وجه وزير لم يجد في ذلك أي حرج. سيقول الفرنسيون إنهم في بلادهم لا ينظرون إلى الأحذية بالصورة نفسها التي يراها بها العرب. لكن أي مسؤول فرنسي لن يجرؤ على التمدّد فوق كنبة مسؤول أميركي، مثلاً، رافعاً حذاءه في وجهه، بالطريقة التي فعلها دوكان في وزارة المالية اللبنانية، أمس. والحق يُقال، فإن سلوك معظم المسؤولين اللبنانيين، من مدنيين وعسكريين، لا يوحي بذرّة كرامة. «التسوّل» هو عنوان المرحلة، أكثر من أي وقت مضى. هم جعلوا صورة لبنان «واطية» في نظر زوارهم ومستقبليهم. على الضفة الأخرى، ثمّة رجل أبيض لا يفوّت فرصة لممارسة فوقيّته من دون أن يستغلّها «احسن» استغلال. دوكان لن يشذّ عن هذه «القاعدة». البلاد تكاد تغرق في الذل، فلماذا يتعامل مع مسؤول رسمي باحترام؟ لكن المسألة هنا ليست شكلية. شهيّة الفرنسيين مفتوحة على استعادة انتداب مباشر على لبنان. وهذا الاستنتاج ليس نابعاً من «نظرية المؤامرة»، بل هو أمر يظهر في سلوك المسؤولين الفرنسيين، والأهم، أنه صدر أمس في توصية رسمية عن لجنة الدفاع والقوات المسلحة في البرلمان الفرنسي. ففي تلك التوصية، طلبت اللجنة من الحكومة الفرنسية العمل، «بصورة طارئة، على إرسال «فريق عمل» دولي (يمكن ترجمة العبارة أيضاً بـ«قوة دولية») تحت سلطة الأمم المتحدة والبنك الدولي، بهدف تعزيز الأعمال الإنسانية في مجالات الغذاء والدواء والرعاية والتعليم، والأعمال التنموية في مجال المياه والكهرباء». كما أوصت اللجنة حكومة بلادها بالسعي مع الشركاء العرب والغربيين من أجل دعم الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي لتمكينهما من القيام بعملهما في مجال مواجهة «داعش» ومكافحة تهريب المخدرات.ولا بد من التذكير بأن معظم التدخّلات الدولية في العقود الأخيرة حول العالم، أتت بذرائع «إنسانية».
هذه الشهية الفرنسية المفتوحة على عودة الانتداب إلى لبنان، استفزّت الكثير من حلفاء باريس، ودفعت بعدد منهم (قيادة الجيش على سبيل المثال لا الحصر) إلى الاستفسار عما صدر عن اللجنة النيابية الفرنسية، وخاصة أنه فُهِم في بيروت كموقف يمهّد الأرضية لقرارات لا تُحمد عقباها. فريق السفارة الفرنسية في لبنان قرّر التخفيف من خطورة الموقف، معتبراً أنه يتحدّث عن فريق عمل مدني، لا عن قوة عسكرية، هدفه ضمان حسن توزيع المساعدات. وبدا من إجابات السفارة أن فريق عملها يخشى من ردة الفعل السياسية على ما صدر من باريس.
الأداء الفرنسي مبنيّ، في جزء منه على الأقل، على أداء القوى السياسية اللبنانية التي تعلن يوماً بعد آخر نيّتها الاستمرار في تضييع الوقت وترك البلاد تسير في انحدارها الشديد نحو الهاوية. لا حلول لأزمات الدواء والكهرباء والبنزين. كلها أزمات مستمرة وتتفاقم، مع تسجيل سعر صرف الدولار، أمس، مستوى قياسياً جديداً قارب 19 ألف ليرة. حتى أزمة البنزين، التي يفترض أن تكون قد انتهت، استمرت على وقع عدم فتح مصرف لبنان اعتمادات على السعر الجديد، بحجة إنجاز المقاصّة مع الشركات قبل ذلك. لكن أمس، أكدت مصادر مسؤولة أن المصرف فتح اعتمادات لست شركات، بعدما أتمّ المقاصة معها بشأن المخزون الذي كانت تملكه. وفيما يُنتظر تأكيد المصارف المراسلة للاعتمادات، أشارت المصادر إلى أنه يفترض تفريغ هذه الشحنات، التي يتخطّى مجموعها 150 مليون ليتر، خلال أسبوع. لكن مع ذلك، فإن الأمل بأن تعود الأمور إلى طبيعتها، يبقى ضئيلاً، وسط حديث عاملِين في القطاع عن أزمة بِنيوية تتخطّى الدعم أو رفعه.
مصرف لبنان يفرج عن اعتمادات ستّ شحنات بنزين
انحلال الدولة مهّد السلطة للسفراء. بعدما وبّخت سفيرة فرنسا آن غريو رئيس الطبقة الحاكمة، من على منبر السرايا الحكومية، موجّهة كلامها إلى رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب الذي لم يجد نفسه معنيّاً بالرد عليها، قررت مع زميلتها سفيرة الولايات المتحدة دوروثي شيا زيارة السعودية لـ«البحث في سبل الضغط على السياسيين اللبنانيين من أجل تسريع تشكيل حكومة قادرة على القيام بإصلاحات ضرورية»، وفق ما أعلنت السفارة الفرنسية أول من أمس. الخطوة «الدبلوماسية» تؤكد عملياً أن زمن الدبلوماسية في التعامل مع لبنان قد انتهى. التدخل في الشؤون الداخلية لم يعد بحاجة إلى المواربة. لكن إن كانت الزيارة التي تردّد أنها تهدف إلى الاتفاق على بديل للحريري، نافرة دبلوماسياً، فهي أضاءت على الدور السلبي الذي تقوم به السعودية في لبنان، والذي يُعرقل تشكيل الحكومة.
واستكمالاً لهذا الدور، كان السفير السعودي في لبنان يستقبل حملة تزلّف جديدة، انطلقت من بكركي، التي أعطت فرصة لكل «أحباء» السعودية للتذكير بهذا الحب.
تركت بكركي كل الأزمات، وذهبت لتحتفي بمُعرقل تشكيل الحكومة، عبر حفل إطلاق كتاب «علاقة البطريركية المارونية بالمملكة السعودية» للأباتي أنطوان ضو. ومن على منبرها، وعظ السفير السعودي وليد البخاري اللبنانيين، فدعاهم إلى تغليب «المصلحة اللبنانية العليا لمواجهة التحديات التي يعيشها لبنان، ومن بينها محاولة البعض العبث بالعلاقة الوثيقة بين لبنان وعمقه العربي وإدخاله في محاور أخرى تتنافى مع مقدمة الدستور اللبناني». ومتناسياً أنه خير من يتقن خطاب الفتنة ويؤلّب اللبنانيين بعضهم على بعض، رأى أن «لا شرعية لخطاب الفتنة والتقسيم والشرذمة، لا شرعية لخطاب يقفز فوق هوية لبنان العربي».
أما البطريرك الماروني بشارة الراعي، فسارع إلى تحميل المسؤولية إلى المحور المناهض للسعودية، في معرض تبرئته لها. فقال إن السعودية لم تعتدِ على سيادة لبنان ولم تنتهك استقلاله. لم تستبح حدوده ولم تورّطه في حروب. لم تعطّل ديموقراطيته ولم تتجاهل دولته…
وكي لا يُفهم خطأ، أوضح أن بكركي تحب السعودية كما هي «ولا ننظر إليها من خلال خياراتها السياسية ومواقفها القومية وعلاقاتها العربية والدولية. علاقتنا بها تتخطّى المحاور إلى محور جامع هو الشراكة المسيحية/ الإسلامية».
على المنوال نفسه، ولكي لا يفوتها السوق، بادرت القوات اللبنانية، التي كانت حاضرة في الاحتفال بوفد كبير، إلى القول إن «السعودية لطالما كانت مفضلة على لبنان». ومن أفضالها إطلالة «الأخ وليد البخاري من بكركي، في هذا الظرف الصعب في لبنان»، كما قالت النائبة ستريدا جعجع.
(سيرياهوم نيوز-الاخبار)