إنه حُكم بالإعدام أصدره رياض سلامة بحق عموم السكان، بإعلانه وقف دعم استيراد المحروقات. يقول إنه لم يعد في مصرف لبنان ما يكفي من دولارات لتغطية دعم المحروقات، ثم يعلن أنه سيؤمن الدولارات لتغطية فتح اعتمادات استيراد المحروقات… لكن وفق سعر صرف الدولار في السوق! ماذا يعني ذلك؟ يعني عملياً مضاعفة أسعار المحروقات بأكثر من أربعة أضعاف أسعارها الحالية (قد يتجاوز سعر صفيحة البنزين الـ 330 ألف ليرة). ما يريده رياض سلامة هو خفض استهلاك الوقود، وجمع الدولارات من السوق. وكأضرار ربما يراها جانبية، سيؤدي قراره إلى غلاء فاحش في أسعار كل السلع والخدمات، وانكماش الاقتصاد، وتجفيف الدم من عروق أي عمل إنتاجي وإجبار السكان على قضاء غالبية وقتهم من دون كهرباء… وكأضرار ربما يراها جانبية أيضاً، لا بأس بانفجار اجتماعي. هنا لا يُقرأ قرار مماثل إلا من منظار سياسي. كان متوقعاً أن يُرفع الدعم من ضمن إجراءات الحد الأدنى لتحمي الأكثر فقراً من جزء ولو ضئيل من تبعاته. لكنه صدر أمس كقرار بالإعدام، ما يفتح البلاد على احتمالات الانهيار الشامل ولو بشكله الأمني، مع ما يرافقه من مآسٍ على المستويات كافة
خلاصة جلسة المجلس الأعلى للدفاع أمس، أنّ السلطة السياسية: رئاسة الجمهورية، الحكومة، الوزراء، النواب… تآمرت مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة على سَحق السكّان أكثر وأكثر. تآمرت معه حين فوّضته صلاحيات مطلقة في السلطة النقدية، ثمّ سمحت له أن يُقرّر في احتياجات السكان المعيشية. وارتكبت جريمة عدم فرض أي حلّ بديل، رغم وجود المئات منها، والتسبّب بأسوأ أزمة في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. إلغاء الدعم عن السلع الرئيسية ليس محصوراً بالمزيد من انهيار العملة وتآكل قيمة الأجور والغلاء الجنوني لكلّ شيء. بل الانتقال إلى رفع الدعم تحديداً عن الطاقة، وهي عصب الاقتصاد. رفع الدعم عن استيراد المحروقات، كإجراء من دون أي خطة تواكبه على الأقل، ومن دون الحد الأدنى المتمثل ببدء تفعيل البطاقة التمويلية للأسر الفقيرة (ولو أنه خيار غير كافٍ)، ومن دون أي بديل جدّي يعني أنّ مؤسسات ستُقفل، ومصانع لن تعمل، وإدارات عامة ستتعطّل، ومستشفيات لن تستقبل سوى الميسورين، ومدارس غير مضمون فتح أبوابها، ومواد غذائية ستفسد في المنازل، وسيارات لن تُستخدم لنقل الموظفين إلى أعمالهم… وعمّال سيفقدون وظائفهم. باختصار، للأزمة وقع الدومينو، وكل قطعة منها مهما طالت من قطاعات، فإن الضرر سيصيب الناس في صحتهم وطعامهم ومعيشتهم. يواجه السكّان في لبنان نوعاً آخر من الأزمات لا يُشبه ما قاسوه سابقاً، والأخطر في هذه المرحلة أنّ نتيجة هذا الانهيار وإلى أين قد يودي بالمجتمع، غير واضحة.
مُجدّداً، رفع الدعم لم يكن قدراً، والانهيار لم يكن قدراً، والأزمة تتحمّل مسؤوليتها السلطتان السياسية والنقدية. بلى، كانت لدى السلطة حلول بديلة اختارت عدم تطبيقها: التعامل مع الدواء والمحروقات بوصفهما سلعاً حيوية لا يُمكن العيش من دونهما، وعقد اتفاقيات من دولة إلى دولة لاستيرادهما وتوزيعهما مباشرةً على السكان وإخراجهما من لعبة السوق. وضع اليد على الدولارات المتبقية في مصرف لبنان والتعامل معها كأنّها ثروة وطنية، عوض تركها بين يدَي سلامة يستخدمها لإنقاذ القطاع المصرفي وأصحاب الثروات. مصادرة الدواء والمازوت والبنزين والقمح والمأكولات المخزّنة. التنسيق مع القوى الأمنية لضرب تجّار السوق الموازية. كانت السلطة قادرة على التصرّف وإنقاذ بلد ناتجه المحلي كان يبلغ أكثر من 50 مليار دولار، فبات يواجه انهياراً نقدياً واقتصادياً ومالياً واحتمال التضخّم المُفرط والمزيد من الانكماش الاقتصادي. كيف للناس أن يتحمّلوا كلّ هذا البؤس دفعةً واحدة ويقتنعوا بالاكتفاء بـ«كفاف يومهم» بعد أن سُلب منهم حقّ التخطيط لمستقبلٍ، أبعد من تأمين رغيف خبز، فيما هم يرون السياسيين والمصرفيين ورجال الأعمال والتجّار والمحتكرين وكلّ «أبناء النظام» يسوحون ويأكلون ويتعلمون ويستملكون ويُطبّبون وينيرون منازلهم، من ثرواتٍ راكموها على حساب عامة الناس؟
أصدر سلامة بياناً قال فيه إنّه سيؤمّن الدولارات للمحروقات تبعاً لأسعار السوق
ممّن يُطلب أن يشعر مع عائلة تبيع قوّة عملها لتعيش ولا تملك مدخولاً آخر غير راتبها؟ عائلة مضطرة إلى حَمل همّ عدم المرض لأنّ الدواء منقطع والتأمين توقّف عن تغطية الخدمات الاستشفائية والضمان على باب الإفلاس ومصنع المصل توقّف عن الإنتاج والمستشفى يُلوّح بالإقفال… وهمّ تأمين الحدّ الأدنى من الغذاء بعد أن ارتفعت أسعار كلّ السلع الأساسية، وفي مقدمتها ربطة الخبز، والبكتيريا تغزو الأجبان والألبان، وانقطاع الكهرباء يؤثّر في صلاحية المأكولات… وهمّ التفكير بحلّ لأزمة التنقّل، فـ«السرفيس»، قبل رفع الدعم، بات يُساوي بدل النقل لنهار عمل كامل، مقابل ارتفاع أسعار البنزين وندرته، والخوف من تعطّل قطعة غيار في سيّارة فُرض استعمالها في بلد لم يُبنَ فيه نظام نقل عام… وهمّ تأمين دراسة لائقة للتلاميذ والطلّاب، وتكلفة شراء حاسوب لمتابعة الدراسة عن بُعد، ثمّ ضمان وجود تغذية كهربائية ليتمكن الأولاد من الدرس، والخوف من أن تُقفل بعض المدارس نهائياً. فمن أين يأتي المسؤولون بكلّ هذا الفجور الأخلاقي حتى يهدروا سنتين، تفرّجوا خلالها على الانهيار، وامتنعوا عن اتخاذ قرارات طارئة تُحاكي حجم الكارثة، بالتوازي مع بدء العمل على خطة إصلاحية إنقاذية أساسها توزيع الخسائر بطريقة عادلة، لا كما يحصل حالياً بتدفيعها للفقراء والطبقة المتوسطة مقابل إنقاذ الأغنياء والسارقين والمحتكرين؟
«الأعلى للدفاع»: تغطية سلامة!
ما حصل في المجلس الأعلى للدفاع أمس خير دليل على تواطؤ السياسيين مع رياض سلامة، في إطلاق يده ليس فقط في السياسة النقدية للبلد، بل أيضاً في القرارات المُجتمعية التي تمسّ أمن السكّان، وصولاً حتى تهديد حياتهم. فقد حضر حاكم البنك المركزي قسماً من اجتماع «المجلس الأعلى» في قصر بعبدا، مُبلّغاً الحاضرين عدم قدرته على الاستمرار في الدعم، وبأنّه يملك في حساب التوظيفات الإلزامية 14 مليار دولار، «لا يُمكنني قانونياً التصرّف بها»، لذلك قال بأنّه «لن أتمكّن من فتح اعتمادات لشراء المحروقات». وأضاف بأنّه عقد أمس اجتماعاً مع وزير الصحة حمد حسن، «على أن أتسلّم منه اللوائح الأخيرة لأدوية الأمراض المزمنة والمستعصية. مضطر أن أُكمل دعم استيراد هذه الأدوية، رغم أنني اقتربت من الخط الأحمر للصرف». سأل الرئيس ميشال عون عن سعر تنكة المازوت بعد رفع الدعم، فردّ وزير الطاقة ريمون غجر إنّها ستصل إلى «245 ألف ليرة، لأنّ سعرها 12 دولاراً، وتُضاف إليها رسوم بحدود الـ5 آلاف». يُعلّق أحد الحاضرين بأنّ «سعر تنكة المازوت لن يبقى 245 ألف ليرة وقد يصل إلى 500 ألف ليرة، لأنّ رفع الدعم يعني لجوء التجّار إلى السوق لتأمين الدولارات، يعني ارتفاع سعر الصرف». فأكّد سلامة أنّ «مصرف لبنان سيتدخل ليمنع سعر الصرف من الارتفاع إلى معدّلات عالية». مرّ هذا التصريح من سلامة مرور الكرام في جلسة المجلس الأعلى للدفاع، فلم يُنبّه أي من الحاضرين إلى أنّه ومنذ صيف عام 2019 يُراقب انهيار الليرة والتبدّل في سعر الصرف من دون اتخاذ إجراءات لحماية استقرار العملة، لا بل بيّنت التحقيقات القضائية سابقاً أنّ مصرف لبنان مُضارب على العملة. فضلاً عن أنّه قبل أن يعرض خدماته لضبط سعر الصرف، كان يدّعي عدم إمكانية التصرّف بالدولارات المتبقية، فمن أين سيأتي بالدولار للدفاع عن الليرة في السوق؟
في ختام النقاش، توجّه عون لسلامة: «نفهم منك أنّه لا يوجد حلّ إلا بتحرير سعر المحروقات؟»، فأكّد الحاكم على ذلك. «ما بقا بدنا منك شي فيك تفل»، قال الرئيس لسلامة، فـ«فلّ» مُعتبراً أنّه نال تغطية سياسية لرفع الدعم عن المحروقات. وهو بذلك «مُحقّ»، فلا عون ولا أي من المشاركين في الاجتماع منع سلامة من التوقّف عن الدعم قبل طرح بديل جدّي. وأصدر سلامة ليلاً بياناً بأنّه سيقوم بتأمين المحروقات «باحتساب سعر الدولار على الليرة تبعاً لأسعار السوق، ويعود لوزارة الطاقة تحديد الأسعار الجديدة للمحروقات». وبحسب المعنيين في وزارة الطاقة، فستُحضّر جدولاً للتسعيرة الجديدة وفق الأخيرة ستبقى تصدر جدول التسعير على السعر المتفق عليه للدعم، أي على سعر 3900 ليرة، إلى أن يُصدر مصرف لبنان تعميماً جديداً، فتصدر بدورها تسعيرة السعر غير المدعوم. وبحسب «الدولية للمعلومات»، فإن إلغاء الدعم عن المحروقات سيعني وصول سعر صفيحة البنزين إلى 336 ألف ليرة، وسعر صفيحة المازوت إلى 278 ألف ليرة! هذه التقديرات مبنية على سعر السوق الحالي، فيما المتوقّع أن يؤدي رفع الدعم إلى المزيد من الانهيار في سعر الصرف، ما يعني ارتفاع أسعار المحروقات أكثر وأكثر، رغم زعم سلامة أنه سيتدخّل لحماية سعر الصرف!
(سيرياهوم نيوز-الاخبار)