د. عدنان منصور
شهد لبنان منذ قرن وحتى اليوم، ما هبّ ودبّ من الأحزاب المختلفة، منها أحزاب علمانية وطائفية، إقطاعية وثورية، تقدّمية ورجعية، يسارية ويمينية، شرقية وغربية، اشتراكية ورأسمالية، وحدوية وانعزالية، وطنية ومحلية، عائلية ومناطقية…!
أحزاب أدارها كلّ أصناف البشر، وكلها نادت بالحرية، والسيادة الوطنية، والعدالة الاجتماعية، وبناء الدولة المقتدرة بمؤسساتها، إلى ما هنالك من المفردات الجذابة التي تسيل لعاب كلّ مواطن حر، يتطلع الى مجتمع يتحقق فيه التقدم والعدالة، والرفاهية.
بعد أكثر من قرن، وجد اللبنانيون وللأسف، وطناً يترنّح، يتحلّل أمام عيون كلّ الأحزاب، والتيارات، والحركات، والمنتديات السياسية، والفكرية، ومنظمات المجتمع المدني، فيما هي تشاهد انهيار وطن، وتفكك مؤسساته، وبؤس شعبه.
على مدار قرن، رفعت غابة من الشعارات، والأعلام، واللافتات، وصور الزعماء، وعمّت المهرجانات، والمظاهرات أرجاء الوطن، وتزاحمت فيه المؤتمرات، والندوات، والخطابات الحزبية، والفكرية، والسياسية والعقائدية، الى أن أصبح لكلّ منطقة زعيمها، ودستورها، وعلمها، وشعارها، ونشيدها، ونهجها، وإعلامها الخاص بها. في حين أصاب معظم هذه الأحزاب الترهّل، وأصبحت عبئاً ثقيلاً على وطن وشعب على السواء.
إذا كانت غالبية الأحزاب والتنظيمات، والحركات، لم تستطع أن تمنع انهياره، أو إنقاذه، أو تقف في وجه الطغمة التي تديره، والتي كانت السبب المباشر في انهياره وتفكك مؤسساته، فما الداعي بعد ذلك الى وجودها، وبقائها، والاستمرار في سياساتها الفاسدة وأدائها العقيم؟
من اللافت والمعيب جداً، انّ الاحزاب في لبنان تتقدّم وتتمدّد كلما ارتفع منسوب خطابها الديني، وشحنها الطائفي، وتتراجع وتتقلص كلما أخذت بعداً وطنياً وقومياً. إذ أنه في كلّ مرة تريد الأحزاب والتنظيمات والحركات معالجة مشاكل البلد السياسية، والوطنية، والاقتصادية، والحياتية، والخدمية، نراها تعالجها من منظار مصالحها الخاصة، أكانت هذه المصالح فردية، أو طبقية، أو طائفية، أو مناطقية بحتة. هذا ما جعل اللبنانيين لا سيما غير الحزبيّين، أن يشعروا بالإحباط لجهة حقيقة دور الأحزاب وأهدافها، وصدقيتها.
وهذا ما أدّى إلى تراجع ثقتهم بها، إنْ لم نقل انعدامها. لأنّ معظم هذه الأحزاب والتنظيمات، والحركات، أثبتت عن فشلها الذريع، وعجزها الفاضح في الدفاع عن سيادة الوطن، وحقوق الشعب، وتحصينه، وحمايته، وتصدّيها لأطماع العدو الإسرائيلي المتوحش الذي يهدّد ويتربّص بنا. إذ لم تستطع وهي التي شاركت فعلياً في الحكم والفساد على مدى عقود طويلة، تحصين البلد وإخراجه من أزماته، وتجنيبه الانهيار، حيث كانت العلة والسبب الرئيس في إغراق لبنان في المستنقع الذي هو فيه الآن. على اعتبار أنّ معظم هذه الأحزاب والحركات التي شاركت في السلطة، غالباً ما كانت تلجأ الى التسويات، وتوزيع الأدوار والحصص، ولفلفة الأمور، وتقاسم الصفقات، والاحتكارات، والامتيازات، تهادن وتراهن، تغضّ النظر عن تجاوزات السياسات والقرارات المشبوهة، أو تشارك فيها، وتخرق الدستور وتتجاوز القوانين وتشلها بكلّ وقاحة دون حسيب أو رقيب.
إلى جانب ذلك، شهد لبنان من وقت الى آخر، أحزاباً وتنظيمات وحركات تتخبّط في مشاكلها الداخلية نتيجة الخلافات من هنا، وانسحابات من هناك، مع ما رافق ذلك، من عداوة، وتخوين، وتراشق بالاتهامات، ما أدّى في ما بعد الى تفسخ الأحزاب، لينبثق عن الحزب أحزاب، وعن التنظيم تنظيمات، وعن الحركة الواحدة حركات! هل حاولت الأحزاب والتنظيمات يوماً، إعادة النظر في فكرها، ونهجها، وممارساتها، وأدائها، وسلوكها، وأخطائها، لمعرفة الأسباب الحقيقية، والدوافع الفعلية التي أدّت الى فشلها، وتراجعها، وتفككها، وانسحاب قيادات وأعضاء منها، والانفصال عنها، وتأسيس أحزاب وتكتلات بديلة عنها؟
كيف يمكن لمعظم هذه الأحزاب تنفيذ برامجها، وتحقيق أهدافها في بلد انهار فيه كلّ شيء؟! وأين كان دورها الفعّال في ملاحقة المسؤولين الذين ارتكبوا جرائمهم بحق الشعب والوطن، وأرجعوه خمسين سنة أو أكثر الى الوراء، نتيجة حكم طغمة مفسدة في الأرض، أدارت الدولة بكلّ ما فيها من مؤسسات ومرافق على هواها، وسخّرتها لخدمة مصالحها الحزبية والخاصة؟!
هل قامت الأحزاب يوماً، خلال مسيرتها الطويلة بنقد ذاتي، وتقييم أدائها بشفافية، مترفعة عن عنجهيتها، وغرورها، وتصلبها، وعن فائض الثقة في نفسها، وإصرار البعض فيها، على المضيّ في نهجهم الأعوج، حرصاً منهم على الزعامة، والوجاهة، والأنانية الضيقة، والمنفعة الخاصة، والبريق الشخصي؟!
ألا تشعر هذه الأحزاب حتى الآن أنّ رصيدها الشعبي يتآكل، ونورها يخبو؟! فعلام الاستمرار إذن في تعنّتها، وممارساتها العقيمة وسياساتها الفاشلة؟
كيف يمكن لأحزاب وتنظيمات وحركات أن تحقق أهداف الشعب، فيما تحكمها بالوراثة أسر وعائلات إقطاعية، ومالية، وسياسية، تتنقل فيها الزعامة بين الأب والابن والحفيد، وعند الحاجة بين الزوج والصهر وابن الأخ والشقيق!
كيف يمكن لأحزاب «عائلية»، أن تدّعي أنها تجسّد ضمير الشعب وتطلعاته، وهي التي لم تستطع مجتمِعة أن تتجاوز إطارها الطائفي والجغرافي الضيق، او تتعدّى حدود المنطقة او المدينة!
كيف يمكن لأحزاب عقائدية علمانية، ذات المسار والتاريخ الطويل، ان تحقق أهدافها، في الوقت الذي يتراجع عددها، وانتشارها، ورصيدها الشعبي، وأداؤها مع الأيام، وهي تشهد، من آن الى آخر، خلافات، وتصدّعات، وانشقاقات؟
كيف يمكن لأحزاب طائفية في الشكل والأساس، أن تحاور، وتغطي مروحتها مساحة الوطن، والشعب الواحد، وتعبّر عن وحدته، وآماله، فيما هي لا تستقطب في تركيبتها الحزبية سوى الجزء الأكبر من أبناء طائفتها!
أليس واقع الأحزاب المتمثلة في السلطة اليوم، يعكس صورة الحالة المزرية التي نراها على الأرض يومياً؟
تجاه هذا الواقع التعيس مَن يتحمّل المسؤولية؟ إذا كانت المسؤولية في جزئها الأكبر تقع على الطغمة التي تدير البلاد، ومعظم الأحزاب على اختلافها التي تشارك في الحكم، فإنّ المواطنين، وبالذات غير الحزبيين، يتحمّلون قسطاً كبيراً من المسؤولية لجهة انهيار الدولة وتفكك مؤسساتها. إذ أنّ غالبية الشعب، كما الأحزاب، تحتاج اليوم الى ثورة على ذاتها، لإعادة تهذيب فكرها، ونهجها، وسلوكها ومفاهيمها، وممارساتها من جديد، بعيداً عن العصبية الطائفية، والجهل، والتعصب، والتقوقع، والتحجّر والاستعلاء على الآخر.
بعد كلّ الأزمات والكوارث التي حلّت باللبنانيين، التي ارتكبها بحقهم مافياويو السلطة، وكانوا العلة والسبب المباشر في سرقة وطن، وتجويع شعبه وإفقاره، وإذلاله، وبعد لامبالاة وحوش المال، وتعمّد مافيا السلطة والاحتكارات عدم إعادة المال المنهوب والمسروق والمهرّب للخارج، والتمنّع المتعمّد عن تحقيق الإصلاح، وملاحقة، ومحاكمة الفاسدين، وبعد أن فشلت الأحزاب، والتنظيمات والحركات على أنواعها، لا سيما الطبقة الحاكمة الفاسدة التي أوصلت البلد إلى الهاوية، لم يبق أمام اللبنانيين سوى حزب واحد للالتفاف حوله، وهو أحوج ما يكون إليه الشعب اليوم بكلّ طوائفه وأطيافه، هو «حزب القصاص». حزب يصحّح بوصلة الوطن، لا يعرف الخطوط الحمر، يتجاوز الزعامات والطوائف والمناطق. لا يتبع ديناً، ولا طائفة، ولا زعيماً، ولا يخضع لأيّ جهة خارجية، إنما يتبع ضمير الناس ووجعها، وحكم الشعب! حزب له هدف واحد: اقتلاع الفاسدين من جذورهم، وملاحقتهم الى عقر دارهم ومعاقبتهم على اغتيالهم للوطن، وإفقار شعبه، وإذلاله، وتهجيره.
وحده القصاص لا مفرّ منه، الذي أصبح حتمياً، بعد أن غطى الفاسدون في الدولة والقضاء، أصحاب النفوذ في السلطة، وحموا قراراتهم السياسية، والإدارية، والمالية المشبوهة، وضربوا بعرض الحائط القوانين، دون أن يلتزموا بقسمهم، ويصونوا شرفهم، وشرف المهنة، في تطبيق العدالة المنوطة بهم.
لا تضيّعوا السنين وأنتم تبحثون عن الإصلاح في وطن، نظامه طائفي مهترئ عفن، لا اليوم ولا بعد مئة عام، قبل اجتثاث طبقته المدمّرة. عندها فقط يمكن الحديث عن بناء دولة العدالة وحقوق الإنسان، والإصلاح الحقيقي!
*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق.
(سيرياهوم نيوز ٣-منتدى الفكر السياسي والادبي)