أحمد العبد
أحرق مستوطنون، فجر أمس الخميس، مسجداً في بلدة دير استيا، الواقعة غربي مدينة سلفيت، عامدين إلى كتابة شعارات عنصرية على جدرانه وتحطيم نوافذه، وذلك بعد ساعات فقط من هجوم كبير شنّه مستوطنون آخرون على ممتلكات للفلسطينيين قرب بلدة بيت ليد شمال الضفة الغربية. ويندرج الهجومان الأخيران، في إطار عشرات الهجمات التي يشنّها المستوطنون، بشكل يومي، ضدّ الفلسطينيين وممتلكاتهم، فيما تكشف المقاطع المصوّرة المنتشرة أن الأعمال المُشار إليها قد اكتسبت طابعاً تنظيمياً وأكثر دموية، في خضمّ مشاركة عشرات المستوطنين المدجّجين بالسلاح فيها. وكان هؤلاء قد صعّدوا اعتداءاتهم منذ بدء الحرب على غزة عام 2023، مستغلّين الدعم السياسي الكبير الذي منحهم إياه الائتلاف اليميني الحاكم، ومشاركة جيش الاحتلال في الهجمات وتأمينه الحماية لهم، جنباً إلى جنب حملات التسليح التي أطلقها وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، والتي استجاب المئات منهم لها بالفعل.
بيد أن الانتقادات المتزايدة، بما في ذلك من جانب واشنطن، دفعت بالرئيس الإسرائيلي وقائد جيش الاحتلال ورؤساء عدد من الأحزاب، داخل الكيان، إلى إدانة تلك الهجمات، في مناورة تهدف، على الأرجح، إلى احتواء ردود الفعل الدولية الغاضبة؛ إذ تزامنت المواقف الإسرائيلية المندّدة باعتداءات المستوطنين مع تعبير وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، الأربعاء، عقب اجتماع لوزراء خارجية «مجموعة السبع» في كندا، عن «قلقه» من إمكانية أن تقوّض موجة العنف الحالية في الضفة جهود وقف إطلاق النار في غزة.
وعلى الأثر، وصف الرئيس الإسرائيلي، إسحاق هرتسوغ، هجمات المستوطنين بـ«المروّعة والخطيرة»، مشيراً إلى أن «العنف الذي ارتكبته مجموعة من الجناة يتجاوز خطاً أحمر». وأردف، في منشور على وسائل التواصل الاجتماعي، أنه «يجب على جميع سلطات الدولة أن تتحرك بشكل حاسم للقضاء على هذه الظاهرة». بدوره، دان رئيس الأركان، إيال زامير، مظاهر العنف، زاعماً أن «الجيش لن يتسامح مع أقلية من المجرمين الذين يشوّهون صورة الملتزمين بالقانون». كما كان لافتاً اعتبار زامير أن «الجيش ملتزم بوقف الأعمال العنيفة التي يرتكبها المستوطنون»، والتي «تتعارض مع القيم الإسرائيلية وتصرف انتباه قواتنا عن إنجاز مهمتها»، على حدّ تعبيره. أمّا قائد القيادة المركزية لجيش الاحتلال، آفي بلوث، فاعتبر أن الردّ على «المجموعة الفوضوية» يتطلب استخدام موارد كبيرة «كان من الممكن أن تُركّز على تعزيز الأمن وإجراء عمليات مكافحة الإرهاب».
وكان جيش الاحتلال قد زعم أن المستوطنين الذين هاجموا قريتَي دير استيا وبيت ليد فرّوا إلى منطقة صناعية قريبة، قبل أن «يهاجموا الجنود الذين توجّهوا للتعامل معهم، ما أدّى إلى إلحاق أضرار بمركبة عسكرية». وفي المحصّلة، قالت الشرطة، إنها اعتقلت أربعة إسرائيليين، في حين تحدّث الجيش عن إصابة أربعة فلسطينيين.
في المقابل، استغلّت المعارضة الإسرائيلية الأعمال الإجرامية التي يرتكبها المستوطنون لمهاجمة حكومة بنيامين نتنياهو، وتحديداً بن غفير. وقال زعيم المعارضة، يائير لابيد، إن «عنف المتطرفين اليهود الأسبوع الماضي في الضفة الغربية عار على إسرائيل والشعب اليهودي»، مضيفاً أن «الوضع خرج عن السيطرة منذ فترة طويلة، ويجب على الجيش إعادة النظام إلى الضفة». كذلك، أشار اللواء في قوات الاحتياط، يائير غولان، إلى أن «إرهابيين يهوداً يخرجون ليلة بعد ليلة للاعتداء على ممتلكات الفلسطينيين في الضفة الغربية، ويجب على الشرطة والشاباك التدخّل لوقف ذلك»، متابِعاً أن «الطريقة المتسامحة والمشجّعة التي يتعامل بها بن غفير وسموتريش تؤدّي إلى نتائج أمنية خطيرة». على أن بن غفير نشر بنفسه، مساء الأربعاء، مشاهد له وهو يُنكِّل بفلسطينيين خلال اقتحامه مدينتَي اللد والرملة.
على هذا النحو، يحاول قادة الاحتلال اختزال المشهد في الضفة بقيام «قلة قليلة» من المستوطنين بارتكاب بعض «الأعمال» الفردية، وذلك على ضوء انتشار المقاطع المصوّرة التي توثّق حصول هجمات تستهدف المزارعين والصحافيين والممتلكات، وتثير موجة واسعة من الانتقادات. على أن حقيقة رعاية سلطات الاحتلال لتلك العصابات وتأمينها الرعاية لها، لا تنفي تفلّت بعضها ووصولها إلى حدّ مهاجمة الجنود الإسرائيليين أو المستوطنين الآخرين، وهو ما يثير مخاوف فعلية لدى صنّاع السياسة في الكيان؛ إذ ظهرت، في الأسابيع الأخيرة، مثلاً، في جبال الضفة الغربية، جماعة استيطانية متطرّفة جديدة تُعرف باسم «وحوش التلال»، تضمّ عشرات الشبان اليهود الذين حوّلوا أراضي الفلسطينيين ومزارعهم إلى «ساحة رعب». وفي حين أن هذه المجموعات انبثقت من مجموعة «فتيان التلال»، إلا أنها أكثر عنفاً وتطرّفاً وتنظيماً منها.
ظهرت في جبال الضفة جماعة استيطانية متطرّفة جديدة تُعرف باسم «وحوش التلال»
وطبقاً لتقرير نشرته صحيفة «يديعوت أحرونوت» العبرية، في أحد ملاحقها، فإن عناصر «وحوش التلال» يؤمنون بأحقية «شعب إسرائيل» في «أرض إسرائيل الكبرى»، ويرفضون أي تسوية سياسية أو أمنية قد تقترحها الدولة، حتى لو جاءت من الحكومة الإسرائيلية ذاتها، وإن أولئك العناصر يهاجمون الجنود والمستوطنين الذين يعارضون سلوكهم أو يحاولون ردعهم.
على أن ظهور تلك الجماعات، مع ما يصاحبه من ارتفاع في وتيرة العنف، إنما هو نتاج توظيف حكومات الاحتلال المتعاقِبة جرائم المستوطنين كأداةٍ لترسيخ السيطرة الإسرائيلية في الضفة، بما يخدم المشروع الاستيطاني والتهجيري، مع تجنيب جيش العدو، في الوقت نفسه، إلحاق المزيد من الضرر بصورته. وتُظهِر المعطيات الرسمية الإسرائيلية أن عام 2025 سجّل زيادة حادّة في حجم اعتداءات المستوطنين، بما في ذلك عشرات الهجمات الإرهابية التي وقعت خلال الأسابيع الأخيرة فقط؛ إذ تشير بيانات وزارة الأمن الإسرائيلية إلى تصاعد حادّ في الاعتداءات بالتزامن مع بدء موسم قطف الزيتون، حيث وصلت إلى أكثر من 68 هجوماً إرهابياً. وبحسب المعطيات الرسمية، فإن عام 2025 بكامله يتّسم بارتفاع مستمر في «الجرائم القومية»، بعدما سُجّل منذ منتصف تشرين الأول الماضي، نحو 50 اعتداء نفّذها مستوطنون متطرفون، بينما تفيد بيانات «الأمم المتحدة»، الأكثر شمولاً، بأن عدد الهجمات في تشرين الأول وحده، قد بلغ 264، وهو الأعلى خلال عام كامل.
إزاء ذلك، يحاول الإعلام العبري، بدوره، وضع الاعتداءات الأخيرة في خانة الأعمال «القومية» والفردية؛ إذ قال مصدر عسكري، لـ«القناة 12»، إن «الارتفاع في الجرائم القومية واضح جداً في الميدان»، مشيراً إلى أن «العنف المتزايد لا يسبب فقط معاناة للفلسطينيين، بل يضرّ أيضاً بالاستقرار الأمني، ويجبر الجيش على تخصيص قوات وموارد لمعالجته». وطبقاً للقناة نفسها، ففي حين أصدر رؤساء «مجالس المستوطنات» في شمال الضفة بياناً دانوا فيه أعمال العنف، فإنهم رفضوا، في الوقت نفسه، ما وصفوه بـ«التعميم ضد نصف مليون مستوطن».
على أن مصادر في أجهزة الأمن الإسرائيلية أقرّت بأن سبب استمرار موجة الاعتداءات الاستيطانية مردّه إلى غياب أي قرار سياسي بوقفه، مؤكدةً أنّ «المسألة ليست مسألة إنفاذ قانون»، بل إن «وجود غطاء سياسي للمستوطنين يمنع التعامل الحازم مع الظاهرة التي قد تتصاعد وتؤدّي إلى فقدان أرواح». وبالفعل، أظهرت البيانات أن عمليات فتح التحقيقات تراجعت بنسبة 58% خلال السنة الأخيرة، و73% خلال السنتين الماضيتين. وشمل الانخفاض، التحقيق في قضايا إطلاق النار على الفلسطينيين (تراجع بنسبة 69%)، وحرق الممتلكات (63%)، وعمليات تخريب أخرى (62%).
وطبقاً للقناة العبرية نفسها، فإن أقل من 10% فقط من التحقيقات في عام 2023 انتهت بتقديم لوائح اتهام، فيما لا تزال غالبية ملفات عام 2024 مفتوحة أو أُغلقت من دون نتائج، ما يرسّخ غياب الردع ويكشف عن الغطاء السياسي الذي تمنحه حكومة نتنياهو لإرهاب المستوطنين. وفي هذا الإطار، اعتبر النائب غلعاد كريف، من حزب «الديمقراطيين»، أن «العدد المنخفض بشكل فاضح من الاعتقالات ولوائح الاتهام، يثبت بوضوح أن الشرطة وسائر أجهزة إنفاذ القانون، تغضّ الطرف عن الموجة الدراماتيكية من العنف القومي الذي يمارسه مستوطنون متطرّفون».
أخبار سوريا الوطن١- الأخبار
syriahomenews أخبار سورية الوطن
