الرئيسية » كتاب وآراء » لماذا الرئيس بوتين مُتحمِّسٌ للتطبيع بين أنقرة ودمشق؟ وكيف يرى الأوضاع في سورية؟

لماذا الرئيس بوتين مُتحمِّسٌ للتطبيع بين أنقرة ودمشق؟ وكيف يرى الأوضاع في سورية؟

د. عبد الحميد فجر سلوم

منذ بضعة أشهر والرئيس أردوغان، ووزير خارجيتهِ، يتحدثان عن الرغبة بالتقارُب مع دمشق..

فما الغاية؟. وما الدافع؟. وما هو الدور الروسي في ذلك؟.

القصّة بدأت منذ مؤتمر سوتشي في 5 آب / أغسطس 2022 بين الرئيسين بوتين وأردوغان..

وحينما طرح أردوغان مشاغل تركيا على أمنها القومي من قوات سورية الديمقراطية “قسد”، أجابهُ بوتين: عليك أن تُحلَّ المسألة بالتنسيق بين أنقرة ودمشق..

منذ ذاك التاريخ تتالت التصريحات عن بعض المسؤولين الروس..

فصرّح المبعوث الروسي إلى سورية لافرنتيف قائلا: بالنسبة للتقارب بين أنقرة ودمشق فلا مشكلة بالتوقيت ولكن بالرغبة بين البلدين. وإنّ إمكانية جمع الأسد وأردوغان متوفرة دائما ونحن نؤيد عقد مثل هذا اللقاء..

ثمّ جاء تصريح نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف، وقال فيه: إن موسكو لا تفرض وساطة على أنقرة ودمشق، ولكن إذا طُلِب منا فنحنُ مستعدون لعقد اجتماع بين أردوغان والأسد، ولكن حتى الآن لا توجدُ مثل هذه الخُطط..

إلا أن تصريح الناطق باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، أكّدَ على استعداد روسيا لتسهيل لقاء الرئيسين والتوسط في المفاوضات، ولكنهُ استدرك قائلا: حتى الآن لا توجدُ تفاصيلا محددة حول هذه المسألة..

**

من جهته فإن الجانب التركي، أطلق عدة تصريحات تُعرِبُ عن رغبته في مثل هذا اللقاء، إن على لسان أردوغان، أو وزير خارجيته جاويش أوغلو..

فقد أكد أردوغان على رغبتهِ في عقد مثل هذا اللقاء، موضِّحا أنه لا يوجد خلافات دائمة في السياسة..

وحينما ذكرت وكالة “تسنيم” الإيرانية، أن بوتين دعا الأسد لقمة منظمة شنغهاي للتعاون التي انعقدت في سمرقند بأوزبكستان في 16 أيلول/ سبتمبر 2022 ، نفى وزير الخارجية التركي جاويش أوغلو ذلك وقال الأسد غير مدعو للقمة، وخرج بعدها أردوغان ليُصرِّح لصحيفة “حريت” التركية: (كنتُ أودُّ لو يأتي الأسد إلى أوزبكستان لكنتُ التقيتهُ، لكنه لا يستطيع الحضور.. وأضاف: كنتُ سأقولُ لهُ وجها لوجه أن سورية ستتقسّم.. وووو ) .. إلى آخر التصريح..

وكان وزير خارجيتهِ جاويش أوغلو قد صرّح في 11 / 8 / 2022 ، أنهُ أجرى لقاء مع وزير الخارجية السوري فيصل المقداد، على هامش الاجتماع الوزاري لحركة عدم الانحياز في بلغراد ي في تشرين أول 2021 ، وأنهُ اقترح لقاء بين الرئيسين أردوغان والأسد..

**

ومع رفض أمريكا القيام بعملية عسكرية تركية جديدة ضد مناطق سيطرة “قسد”، غضِبَ أردوغان.. وعاد بعدها للتأكيد على الرغبة في لقاء الرئيس الأسد بهدف مجابهة ما يصفهُ إرهاب “قسد” .. واقترحَ يوم الخميس 15 / 12 / 2022 ، إنشاء آلية ثلاثية مع روسيا وسورية لتسريع الدبلوماسية بين أنقرة ودمشق، تبدأ بلقاءات الأجهزة الأمنية في الدول الثلاث، ثم وزراء الدفاع الثلاث، ثم وزراء الخارجية الثلاث، ثم لقاء الرؤساء الثلاث..

وقد راقت هذه الفكرة على ما يبدو للجانب الروسي، وصرح نائب وزير الخارجية بوغدانوف أن موسكو تنظر بإيجابية كبيرة بشأن فكرة الرئيس التركي.. وأنهم يجرون اتصالات مع الجانب السوري بهذا الشأن..

فإلى أي مدى ستنجح جهود موسكو، هذا متروكٌ لِقادِم الأيام..

**

أردوغان لن يُصبِح حَمَلا بين يومٍ وليلة، ودافعهُ لهذه المبادرات، أشرتُ إليها في مقالٍ سابقٍ، وهي:

أولا: الضغوطات الروسية، والتي تصبُّ أخيرا في مصلحة روسيا.. وليس بالضرورة كل ما يخدم روسيا يخدم سورية..

ثانيا: الموقف المُطالِب لكليهما بانسحاب القوات الأمريكية من شمال سورية، وكلٍّ لأسبابهِ المختلفة..

ثالثا: وهذا الأبرز، وهو الهاجس الذي يعيشهُ أردوغان من الانتخابات الرئاسية التركية في حزيران / يونيو 2022، وخشيته من فوز مرشّح المُعارضَة..

ولذلك لجأ أردوغان ومنذ فترة من الزمن، إلى نزعِ كافة الأوراق التي يمكن أن تستخدمها المعارضة ضدّهُ في سبيل إضعافهِ شعبيا..

أي عاد إلى نظرية أحمد داوود أوغلو، رئيس الوزراء ووزير الخارجية السابق المعروف بـِ (خيار الِصفر) أي تصفير كافة مشاكل تركيا في المحيط الإقليمي.. حتى لا يترك للمعارضة ذريعة يستخدمونها في وجهه..

**

وأما ما هي أهداف الرئيس بوتين:

الرئيس بوتين باتت تربطه بأردوغان علاقات قوية جدا، ويودُّ أن يراهُ مُجدّدا في الرئاسة بعد الانتخابات القادمة، وهو بالنسبة له أفضل من أي رئيس جديد لا يعرفهُ، إذ أن الاثنين في السُلطة منذ عشرون عاما، وطالما امتدحهُ بوتين في مناسبات عديدة، لاسيما في كلمتهِ المُصوّرة أمام منتدى “فالداي” في 27 / 10/ 2022، حيثُ وصفهُ بقوله:(الرئيس أردوغان زعيم قوي ومتين، يعمل بما يتماشى مع مصالح الشعب التركي واقتصاد تركيا.. ويدافع عن مصالح بلاده الخاصة خلال الحوار معنا.. وهو شريك ثابت وموثوق، وهذه أهم سماتهِ..) ..

وفي عهد أردوغان تطورت العلاقات الاقتصادية والتجارية والاستثمارات بين البلدين بشكل كبير جدا.. حيث بنَت روسيا خط السيل التركي للغاز عبر البحر الأسود إلى تركيا ومنها إلى أوربا، وتمّ الاتفاق على إنشاء مركز للغاز الروسي في تركيا، وفي العام 2021 بلغ حجم التبادُل التجاري بين روسيا وتركيا 33 مليار دولار.. ويتطلّع البَلدان لِرفعها إلى 100 مليار دولار في الأعوام القادمة من خلال حُزمة اتفاقيات بين البَلَدين..

وكذلك يتمُّ تنفيذ مشروع (آق قويو) للطاقة النووية السلمية في مرسين، ومصنع شاحنات الغاز.. بينما تبقى تركيا المقصد الرئيس للسوّاح الروس..

وكذلك وافق أردوغان على دفع ثمن الغاز الطبيعي لِموسكو بعملة الروبل الروسية..

وطبعا لا ننسى دور الوساطة الذي يلعبه أردوغان بين موسكو وكييف في الحرب الدائرة بأوكرانيا، واتفاق تصدير القمح من الموانئ الأوكرانية.. فأردوغان هو اليوم صلة الوصل بين واشنطن وموسكو، وفي أنقرة يلتقي مسئولون أمريكان وروس..

وكان بوتين يسعى دوما لإبعاد أردوغان عن مواقف أمريكا وأوروبا مُستغلّا انزعاج أردوغان من موقف الولايات المتحدة الداعم لقوات سورية الديمقراطية، وباعهُ منظومة صواريخ إس 400 التي أزعجت واشنطن، ودفَعها لفرض عقوبات على تركيا، ولكن هل نجح بوتين في هدفه؟.

لا أعتقد ذلك..

فأردوغان لم يُجامل موسكو في موقف واحد، ولا يصغي لها بكلمة واحدة إن لم تخدم مصالح تركيا أولا.. وأردوغان ماضٍ في سياسات الناتو والاتحاد الأوروبي.. فهو عضوٌ في الناتو، ويحلُم أن يكون عضوا في الاتحاد الأوروبي، ولكنهُ يُشاكسُ واشنطن حينما لا تستجِب لهُ، ويُعاندها، وينتقدها، وهذا قد لا يفعلهُ أي رئيس تركي آخر، ومن هنا بوتين يُفضِّل أردوغان.. وربما تفضل واشنطن مرشّح المُعارضة من الحزب الجمهوري العلماني..

وكانت كلمة السفير التركي في مجلس حقوق الإنسان لدى مناقشة تقرير المفوض السامي عن الوضع الإنساني في أوكرانيا يوم الخميس 15 / 12 / 2022 ، من أكثر الكلمات هجوما على روسيا.. واستخدم عبارات لم يستخدمها أي وفد في دول الناتو والاتحاد الأوروبي..

**

ومع ذلك يبقى بوتين حريصا على العمل مع أردوغان، وتوفير أي ظرف أو عامِل يمكن أن يساعدهُ بالنجاح في الانتخابات القادمة في حزيران / يونيو، ومنها إعادة التطبيع بين أنقرة ودمشق، دون أن ينسحب أردوغان من شبر سوري واحد.. وإنما هو يريدُ من دمشق أن تخوض بالنيابة عنهُ معركتَهُ ضد قوات سورية الديمقراطية المدعومة أمريكيا، لاسيما بعد أن رفعت أمريكا في وجههِ البطاقة الحمراء ورفضت إقدامه على أي عملية عسكرية ضد مناطق قوات سورية الديمقراطية..

**

سورية اليوم ضحية.. يجتمعون ويقررون ماذا سيفعلون، في غياب الدور السوري..

ومن يقرأ تصريحات الرئيس بوتين يشعر وكأنهُ بعيدا عن أجواء سورية..

ففي كلمته أمام مؤتمر فالداي في 27/ 10/ 2022 ، وخلال حديثهِ عن سورية، قال:

(باعتقادي أننا حققنا جميع الأهداف التي طُرحت أثناء بدئنا العملية في الجمهورية العربية السورية، وأن روسيا في تلك الفترة كانت تهدف إلى منع التفتت النهائي لأراضي سوريا، على غرار الصومال، وتدهوُر مؤسسات الدولة في البلاد، وكذلك تسلُّل جزء كبير من المسلحين إلى أراضي روسيا الاتحادية والدول المجاورة لنا.. وتابعَ: إن الجهود الروسية حافظت على مؤسسات الدولة السورية، مما أثمر في إعادة الوضع إلى استقراره في المنطقة، مضيفا: لقد حررنا، خلال هذه الحقبة، حوالي 95% من الأراضي السورية. أما المرحلة التالية فيجب تكريسها لتسوية الأزمة في سوريا بطرق سياسية على ساحة الأمم المتحدة. وذكر بوتين بهذا الخصوص أن العمل يمضي قدما، على الرغم من صعوبته، في اللجنة الدستورية السورية، معربا عن أمله في أن يقود التعاون بين روسيا وشركائها إلى تحقيق تقدم في هذا المسار.. وعن الوضع في محافظة إدلب، قال: إن الاتفاقات بين موسكو وأنقرة حول إقامة منطقة منزوعة السلاح هناك لم يتم تنفيذها من قبل الجانب التركي، لكنه أعرب عن شكره لأنقرة على جهودها في هذا الاتجاه. وأشار بوتين إلى أن الوضع في إدلب شديد التعقيد، لكنه أكد أن العمل جار على إقامة المنطقة المنزوعة السلاح بعمق 15-20 كيلومترا) ..

**

لا أعرف إلى أي مدى يمكن أن نذهب مع تصريحات السيد بوتين.. فاليوم قوات سورية الديمقراطية تستولي على ثُلث مساحة سورية، حسب بعض التقديرات، أي ما يعادل 60 ألف كيلو متر مربع.. وهذه تحوي أكبر ثروات الوطن..

وتركيا تحتل 8830 كم2 .. ومساحة محافظة إدلب التي تسيطر عليها التنظيمات المُصنّفة إرهابية في الأمم المتحدة، تُقدّر بـ 7000 كم2.. وإن جمَعنا هذه الأرقام مع بعض يكون المجموع أكثر من 75 ألف كيلو متر مربع خارج سيادة الدولة من مساحة سورية الإجمالية المُقدّرة بـ 185180 كيلو متر مربع.. أي بهذه الحالة يبقى تحت سيادة الدولة 110 كم2.. عدا عن الجولان الذي تحتلهُ إسرائيل، وعدا عن القواعد الأمريكية في شمال وشرق سورية، وأبرزها قاعدة التّنَف التي تقع شرق العاصمة دمشق على المثلث الحدودي السوري العراقي الأردني.. ومشكلة ملايين اللاجئين والنازحين..

فضلا عن الحالة الأمنية في مناطق الجنوب، في محافظَتي درعا والسويداء.. بينما مؤسسات الدولة كأنها في حالة شلل، نتيجة شُح الكهرباء والمازوت والبنزين وانعكاس ذلك على المواصلات في البلد، ولجوء الحكومة باستمرار لرفع أسعار الوقود، لاسيما المازوت والبنزين، وهذا بالضرورة يؤدي إلى رفع أسعار كل شيء، بينما عموم الناس تصرخ من الفقر والجوع والحرمان الذي لا يعيشه شعبٌ في عالم اليوم.. والبلد غارقة بالفساد..والفلّاح يعاني الأمُرّين من غلاء كل مستلزمات الزراعة، لاسيما المازوت والسماد، وعليه شراؤها من السوق السوداء بأسعار خيالية.. واللجنة الدستورية لم تُحرِز أي تقدم يُذكَر خلال كل هذه السنين.. والشعب السوري في الداخل وفي المخيمات يدفع الأثمان الباهظة.. وتفتيت سورية القائم اليوم، يترسّخ ويتعمّق..

نعم، تحدِّي السلام والأمن والاستقرار أكبر من تحدِّي الحرب.. وهذا لن يحصل إلا بتحقيق الحل السياسي، ودور الرئيس بوتين جوهريا في هذا الشأن..

**

أتمنى من قاعدة حميميم، والسفارة الروسية في دمشق تقديم تقرير مُفصّل وشامل ودقيق عن الأوضاع في سورية، كما هي على حقيقتها، وفي شتّى المجالات، لعلّ ذلك يدفعُ بالرئيس بوتين لإصدار الأوامر حالا بتقديم إسعافات أولية سريعة للشعب السوري..

التركيز يجب أن يكون هنا.. وليس على التطبيع بين أنقرة ودمشق بهذا الشكل المجاني..

فأي لقاء بين أنقرة ودمشق، مع استمرار احتلال تركيا لأكثر من 8830 كم2 من أراضي سورية في الشمال، وتطبيق سياسة التتريك فيها بالكامل، كما فعلوا بلواء اسكندرون السليب، ومع استمرار دعم أردوغان الكامل أيضا للتنظيمات الإسلامية في محافظة إدلب، فإن مثل هذا اللقاء لا يستفيد منهُ إلا أردوغان..

اللقاء مفيد في حالة واحدة: إن كان لأجل إجراء مُحادثات حول انسحاب تركيا من الأراضي السورية.. ومن ثمّ تتكفل سورية بضمان أمن الحدود مع تركيا..

كاتب سوري وزير مفوض دبلوماسي سابق

 

سيرياهوم نيوز 4-راي اليوم

x

‎قد يُعجبك أيضاً

بعد الفيتو الامريكي على وقف القتل: خطوتان مجديتان

  ا. د. جورج جبور       الخطوة الأولى: *انتقال صلاحيات مجلس الأمن الى الحمعية العامة بموحب قرار التوحد من أجل السلم. يتخذ قرار ...