- سعد الله مزرعاني
- السبت 22 كانون الثاني 2022
فشلت، سريعاً، دعوة رئيس الجمهورية لإجراء حوار، في القصر الجمهوري، بين مكوّنات السلطة وأختها «المعارضة» الرسمية، الممثّلتين كلتيهما في مجلس النواب. ذلك أن الحوار، على ما درجت العادة، يقتصر عليهما، عبر صيغة ممثّلي الكتل النيابية. يشكّل ذلك إمعاناً في احتكار التعاطي في الشأن الوطني العام، حتى في ذروة أزمة غير مسبوقة، على غرار الأزمة الطاحنة المفتوحة التي يعيشها لبنان واللبنانيون منذ سنتين ونيف.
فشل الدعوة للحوار ليس أمراً مفاجئاً، أو حتى مستغرباً، رغم الأزمة المتمادية والاستثنائية الراهنة. من حيث المبدأ، في الأزمات العادية، فكيف بالاستثنائية، يسارع المعنيّون إلى التفتيش عن المخارج والحلول. أوّل الشروط المطلوبة لنجاعة أي جهد، هو مباشرة حوار لتحديد أسباب الأزمة، ومن ثم اتخاذ القرارات المشتركة، بحدٍّ أدنى من التكافل والتضامن، للتصدّي لما هو مُلحّ من أسبابها والنتائج. غير أن الوضع اللبناني يشذّ عن هذه القاعدة الطبيعية العامّة. تدير البلد جماعة سياسية متنافرة بسبب الإصرار الخارجي والداخلي على زرع بذور الانقسام والتفكّك في صميم النظام السياسي القائم. يحصل ذلك عبر «الكوتا» الطائفية والمذهبية التي تحوّلت من مؤقّتة إلى دائمة، مكرّسة ومهيمنة، خدمة لمصالح أطرافها الداخليين، من جهة، ولمصالح مرجعيات هؤلاء الخارجية، من جهة ثانية. نجم عن ذلك أن محاولات الحوار بين أطراف السلطة لم تنجح يوماً، هذا في حال أقدم مرجع لبناني رئاسي أو حكومي أو نيابي على الدعوة إليها دون شراكة أو رعاية خارجية. أمّا التسويات التي تمّ التوصل إليها بالحوار، فهي تلك التي دعت إليها أو رعتها الجهات المرجعية لقوى السلطة والمعارضة الرسمية اللبنانية. كانت آخر التسويات تلك التي حصلت في الدوحة عام 2008، وقبلها التسوية الأوسع التي جرت في مدينة الطائف السعودية عام 1989: برعاية أميركية سعودية سورية… أمّا «التسوية الرئاسية» الثنائية فقد انتهت بشكل مأساوي: اعتقال الرئيس سعد الحريري في الرياض ومقاطعة لبنان سياسياً واقتصادياً كما لم يحصل من قبل!
جرت محاولة في تسوية وصيغة «الطائف» لتدارك هذا الأمر. تمّ إقرار نص وآليّة محدَّدة، بشكل شبه تفصيلي، لإلغاء الكوتا الطائفية على مرحلتين مباشرة ومؤجّلة نسبياً. تمّ، في السياق، استحداث «مجلس شيوخ» محصور الصلاحيات للتعاطي بالهواجس والشؤون الطائفية والمذهبية. يلاحظ الباحث المهندس عصام بكداش، في دراسة أنجزها أخيراً، أنه قد جرى تفخيخ تسوية «الطائف»، والدستور بعدها، بصيغ تطبيقية ونصية ملتبسة ومتناقضة بقصد واضح، هو ترك المجال مفتوحاً لعدم تطبيقها، أو حتى لإعادة تكريسها أو التخلّي نهائياً عن أهم الإصلاحات التي أقرّها تسوية «الطائف» وكرّستها في المواد 22 و24 و95 من الدستور. في الواقع هذا التقدير صحيح وقد أكدت التجربة ذلك. ففي المرحلة السورية تمَّ إهمال هذا البند الإصلاحي وتولّت السلطة السورية إدارة الشأن السياسي اللبناني بشكل عام مكتفية منه بتقليص صلاحيات رئيس الجمهورية. أمّا صلاحيات مجلس الوزراء التي أحيل إليها جزء مهم من صلاحيات رئيس الجمهورية، فقد كان يستحوذ عليها، بشكل شبه مباشر، الطرف السوري. هذا ما جعل الوصي السوري يجمِّد كل البنود الإصلاحية تقريباً. الواقع أن تعطيل النص أو الاستفادة من التباس بسيط فيه قرّره، دائماً، ميزان قوى غلّب الاستثناء على القاعدة، كما حصل منذ بدء الولاية العونية… ودائماً، بتغييب أو غياب الطرف الوطني صاحب «البرنامج المرحلي» للإصلاح، والمناضل من أجل إدراجه في تسوية «الطائف»!
فريق 14 آذار، باختصار، وبإشراف من السفير الأميركي فيلتمان وسفراء الدول الغربية المعنية آنذاك، اكتفى بنقل السلطة من عنجر إلى عوكر. هو فوَّت فرصة، رغم ادّعاءاته السيادية، تعزيز الحصة الداخلية في القرارات بشأن مصير البلاد وعلاقاتها الخارجية. اتفاقية الدوحة كرّست الإمعان في تعطيل الإصلاح من خلال إضافة تقاليد جديدة لتوزيع السلطة ولتعطيلها (كونفدرالية طوائف) في حال الخلافات. الرئيس عون، الذي بنى قضيّته ومشروعه على رفض المساس بصلاحية الرئيس الماروني، واصل نفس نهج التعطيل، متجاوزاً، أيضاً، إلى محاولة تغيير النص نفسه المتعلّق بكونها مؤقّتة، فيما هي يجب أن تكون دائمة وشاملة، حسب الدستور، بعد تحرير مجلس النواب من القيد الطائفي.
انطلق الرئيس عون، في دعوته للحوار، من موقع فئوي ومخالف للدستور. إلى ذلك فالتوقيت خاطئ (قبيل الانتخابات) إذ يقع في ذروة جديدة لأزمة مفتوحة ينبغي أن يتركّز الجهد على تدارك المزيد من تعاظمها. لن يكون ذلك ممكناً، طبعاً، من منطلق فئوي أو خاص. هذا بالإضافة إلى أن الصراع الداخلي في ذروته، الآن، وعون وتيّاره مستهدفان بقوّة من الداخل والخارج بسبب تعاونهما مع المقاومة التي يمثّلها حزب الله. ثم إن الانتخابات على الأبواب والفريق الذي توجّهه واشنطن يعوّل كثيراً على نتائجها لتحقيق مكسب كبير في نطاق خطته الشاملة. رغم ذلك، يتواصل إجماع المتخاصمين على الحفاظ على الكوتا الطائفية. كذلك يحصر الفريق الأساسي من المنظمات المدنية المُشكلة بالأداء دون الاقتراب من الخلل الجوهري الكامن في النظام السياسي نفسه. أمّا الطرف الخارجي، الولايات المتحدة وحليفاها الإسرائيلي والخليجي، فيديرون مشروعاً متكاملاً يشترط تحقيقه تعميق الأزمة دون حدود، سياسياً، واقتصادياً واجتماعياً وأمنياً… ما يحول حتماً دون تشجيع أي حوار أو تقارب بين أطراف السلطة اللبنانية. لكل هذه الأسباب وسواها فشل الحوار العوني وسقط بالضربة القاضية!
يفتقد الوضع اللبناني، من خارج سياق السلطة والمعارضة الرسميّتين، والمرجعية الخارجية، إلى ديناميات داخلية شعبية كافية وفعّالة وناضجة. ينطبق ذلك على الشقين الشعبي المعترض والمحتجّ، القديم والجديد، حيث لم تتبلور صيغ جبهوية جدية وشاملة، ذات برنامج وقيادة وخطّة موحّدة، سواء بين الطرفين أو في نطاق كل واحد منهما. الأسباب للأسف ذاتيّة، رغم أن الظرف الموضوعي شديد الملاءمة! هذا الأمر يترك فجوة هائلة قد تضع اللبنانيين أمام خيارين كلاهما سيّئ: نجاح خطّة الفريق الأميركي، أو بقاء القديم على قدمه: أي في الحالتين استمرار الأزمة أو تفاقمها نحو الأسوأ والأخطر، اجتماعياً واقتصادياً وأمنياً و… مصيرياً!
* كاتب وسياسي لبناني
(سيرياهوم نيوز-الاخبار)