بقلم : بنت الأرض
اعتاد العرب أن يقولوا «إن التاريخ يعيد نفسه» وأن يقبلوا من دون اعتراض أو سؤال أن أحداثاً جرت في قرون ماضية تعيد الكرّة اليوم وبطريقة مشابهة جداً ومن دون حتى استخلاص العبر والدروس. ذلك لأنهم على الغالب لم يكتبوا التاريخ الحقيقي الموثق ولم يؤرخوا الأحداث كما حدثت بالفعل بل اختاروا حوادث وتواريخ ترضي غرور المرحلة التي يمرّون بها، ودرّسوها لأولادهم على أنها الحقيقة المطلقة وما عليهم إلا أن يحفظوها عن ظهر قلب ويسكبونها على ورقات الامتحان ثم يغادرون المشهد من دون أسئلة تقييميّة أو أجوبة مقنعة. وقد يكون أحد أسباب التقصير في كتابة التاريخ الحقيقي هو ما تعرّض له الرواد في معظم المجالات على يد المستبدين من الحكام ومن يتبعهم من المنافقين والغياب شبه الكامل للموضوعية والدقة في القراءة والتقييم للمنتجات الفكرية على مرّ العصور؛ فحين اختلف ابن رشد والغزالي على مفاهيم فكرية وفلسفية وعلمية ودينية حرق الرعاع بترخيص من مخالفيه كتب ابن رشد وحرّموا التعامل مع نصوصه، على حين تلقف الغرب أفكاره ونظرياته وبنوا على أسسها منظومة تفكير ورؤى وأساليب بحث وتحليل وتحقيق علمية، وحتى هؤلاء الذين يقرؤون كتاب الغزالي «تهافت الفلاسفة» لا يكملون إحدى أهم موجبات بحثهم العلمي ألا وهي قراءة الرّد على هذا الكتاب الذي سطره ابن رشد «تهافت التهافت»، وليحكموا بعد ذلك بما يريدون بعد قراءة الرد والتفكير ملياً والحكم بما يقتضيه المنطق والموضوعية. وقد أحدثت هجمات إحراق الكتب وتكفير الفلاسفة والمفكرين والعلماء على مدى التاريخ العربي ردة فعل قوية لدى أصحاب الفكر والقلم إذ باتوا يخشون من التكفير والتنكيل؛ فإما انكفؤوا على أنفسهم واعتزلوا قول الحق أو قرّروا عدم التصدّي لما يرونه من إفساد للفكر والمنطق والدين القيّم والسريرة السليمة. وهذا يتطلب جهاداً وتضحية قد تكون في غير مكانها إذا كانت الأغلبية من الرعاع الذين لا يقرؤون وإذا قرؤوا لا يفهمون وإذا فهموا لا يسلّمون بالحق والمنطق. ولهذا السبب بالذات امتنع الكثيرون ممن شهدوا الأحداث على مرّ التاريخ من الإدلاء بشهاداتهم لأن هذه الشهادات وببساطة ستبرهن أن جلّ ما سطّره البعض كتاريخ رسمي للأجيال مزور أو ناقص على أقلّ تقدير. فكيف يمكن أن نتعلم من تاريخ لم يقل الحقيقة أصلاً ومن أحداث لم تصلنا على ما يشبه وقوعها ومن علماء اتخذوا الصمت سبيلاً للنجاة بأنفسهم والابتعاد عن الإشكالات التي قد تكلفهم مكانتهم وسمعتهم وغالباً حياتهم؟
ولذلك حين يقدّم لنا كتاب مثل كتاب الصديق الدكتور سامي مروان مبيض: «نكبة نصارى الشام: أهل ذمة السلطنة وانتفاضة 1860» نتلقفه ونقرؤه في جلسة واحدة نتيجة العطش المزمن لنقرأ بحثاً تاريخياً علمياً يحاول لملمة خيوط الرواية ونسجها لتقارب حقيقة ما حدث منذ أكثر من قرن ونصف القرن ولمحاولة إنصاف أحفاد أحفاد من قضوا في أحداث ملتبسة غلب على نقلها صيغة «الشائعة» التي ما زلنا في العالم العربي نوليها الأهمية الكبرى لأن الأغلبية لا تريد أن تكرّس الوقت للقراءة والبحث واكتشاف الأحداث التاريخية ووضعها في نصابها الصحيح؛ فما زال أهل الشام يشيرون إلى أحداث عام 1860 بعنوان «طوشة النصارى» العنوان الذي يحمّل النصارى مسؤولية قتلهم وذبحهم ونهبهم، على حين الأسباب الحقيقية وراء المجزرة البشعة التي تعرض لها المسيحيون في دمشق عام 1860 كما ذكر الدكتور سامي في ختام الكتاب أسباب معقدة من اقتصادية إلى عثمانية إلى حساسيات مزمنة إلى أسباب فردية صغيرة هدفها التخلص من الدائنين وإعادة المجد في صناعة وتجارة الحرير إلى التجار المسلمين بدلاً من المسيحيين.
لقد وضع الدكتور سامي في نهاية الكتاب أسئلة للتاريخ تحاول الإشارة إلى المسؤولين المحتملين عن مجريات تلك الأحداث الدامية ليس بهدف القصاص طبعاً بعد كلّ هذا الوقت، ولكن بهدف معرفة العوامل التي أخرجت دمشق من المرتبة الأولى عالمياً في صناعة وتصدير الحرير، والتي ولا شك تحمّل الوالي العثماني في ذلك الوقت أحمد عزت باشا مسؤولية تخاذل إنقاذ المسيحيين من خلال انتظاره أسبوعاً كاملاً للتحرك.
وسواء أراد الأوروبيون ضرب الصناعة في دمشق أم ضرب السلطنة العثمانية من الداخل فمن المؤكد أن الضحايا كانوا سوريين مسيحيين ومسلمين، ولكن هذه الأسئلة القصيرة هنا تحتاج إلى أبحاث تاريخية تستفيد من أجوبتها الأجيال فلا تستمر في أن ترى نفسها فِرَقاً وشيعاً وطوائف ومذاهب وأحزاباً متقاتلة يتمكن الطامعون من الدخول من خلال تضخيم الفروقات بينها وضرب أبناء البلد الواحد بعضهم ببعض وتكون النتيجة حتماً خسارة الشعب والبلد، على حين يحقق الطامعون ويمضون ليعيدوا التجربة بتخطيط أفضل وكفاءة أعلى في المرات القادمة معتمدين على المتطرفين الذين يستخدمون العنف لفرض آرائهم. لو كانت هذه النكبة وغيرها كثير من نكبات ونكسات وانكسارات وهزائم وكوارث في تاريخنا القديم والحديث والمعاصر قد وُضعت تحت المجهر وانشغل الباحثون الموضوعيون بكشف مسبباتها العميقة ووضع النقاط على الحروف واستخلاص الدروس المستفادة من الفرقة والفتنة واستهداف أهل البلد الواحد والمدينة الواحدة أو الأمة الواحدة في حالات أكبر لبعضهم البعض فقط نتيجة التغرير بهم أو عدم ارتقائهم إلى مستوى المسؤولية أو عدم إدراكهم للمبتغى والهدف الذي يخطط له خصومهم وأعداؤهم، ولو كان تفسير هذه النكبات قد شكّل الجزء الأكبر من التاريخ الذي ندرّسه لأولادنا في مناهجهم المدرسية لتمكنّا ربما من أن نرفع درجة الوعي لديهم ولتعلمنا جميعاً من التاريخ دروساً لا تسمح لهذا التاريخ أن يعيد نفسه، ولا تسمح لنا أن نكون ضحاياه مرة تلو الأخرى من دون أن نعيَ ونفهم ونغيّر الأسس والأساليب المعتمدة لدينا ما يخدم أمننا ومصلحتنا وأمن وسلامة بلداننا.
لو أننا عكفنا على ما فعله الأوروبيون بعد الحرب العالمية الثانية من دراسة مجتمعية وسياسية واقتصادية لأسباب النزاعات والمعارك الدامية التي عصفت بأوروبا لرأينا أنهم كرّسوا الجهد والمال وخلاصة ما لديهم من تجارب ومعلومات كي لا يقعوا في الشرك مرة أخرى. وها هو أحد زعماء فدرالية الأخوة العالمية IFB يقول وهو على فراش الموت: «إننا ما بلغنا هذه النجاحات الكبرى في تدمير العراق، وخصوصاً كنموذج لبلدان الشرق الأوسط، إلا لأننا استعنا بخلاصة تجاربنا السابقة التي نفذناها في العالم». وتقول النظرية الماركسية الاشتراكية «إن التراكم الكمي هو الذي يحدث تحولاً نوعياً». فمن أين يجب أن نبدأ لإعادة قراءة وكتابة تاريخنا الحقيقي وتدريسه للأجيال كي تتعلم منه وتبني وعياً قادراً على أن يوجّه خطاها في أزمان عاصفة قادمة؟ لم يعد السلاح وحده كافياً ولا حاملو السلاح قادرين على تغيير وجه التاريخ، بل لابدّ لذوي العقول والفكر من تمحيص هذا التاريخ وتقييمه وتأريخه بصدق ووعي ليوفّر على الأجيال القادمة سلاحاً وجيوشاً وفتناً ومعارك يمكن تجنّبها بالوعي والحكمة بدلاً من خوضها مرة تلو الأخرى دونما بصر أو بصيرة.
(سيرياهوم نيوز-الوطن30-11-2020)