د. سلمان ريا
لم يعد سؤال “لماذا ندرس التاريخ؟” ترفاً فكرياً أو درساً مدرسياً مكروراً، بل أضحى سؤالاً فلسفياً وسياسياً من الطراز الأول. فالتاريخ لم يعد مجرد استعادة لماضٍ غابر، بل غدا ميدانًا للصراع على المعنى، وورقة تُلعب في لحظة راهنة مشحونة بالأيديولوجيا، ومثقَلة بهاجس الهوية والسلطة. وفي مواجهة هذا التسييس الفجّ للذاكرة، تبرز اليوم الحاجة إلى تاريخ يتحرّر من قبضة السرديات، ويؤسّس معرفته على القرينة المادية، لا على الحنين الأعمى أو الخطاب الموجَّه.
كان التاريخ، لعصور طويلة، رهين الحكاية والأسطورة؛ تسكنه ملاحم المنتصرين وتفاصيل السرد الغائي، وكأن مهمته تمجيد ما مضى لا مساءلته. أما اليوم، فقد قلبت الأركيولوجيا والأنثروبولوجيا معادلة المعرفة التاريخية: لم تعد الوثيقة النصية وحدها حاملةً للحقيقة، بل أصبح للشاهد المادي، للحجر، وللرفات، وللرماد، وللقبور الصامتة، سلطة تفوق كثيرًا سلطة الكلام. هكذا خرج التاريخ من دفاتر الرواة، ونزل إلى قيعان الأرض، باحثًا في الحفر وفي التربة عن المعنى. صار علمًا مادياً، لا لأن مادته جامدة، بل لأنه يُبنى على ما يمكن التحقق منه، لا ما يمكن تخيّله. في زمن التزييف الممنهج، لا شيء أكثر ثورية من أثرٍ ماديٍّ يُفكك أكذوبة قومية أو أسطورة لاهوتية.
ليست المسألة في “ماذا جرى؟”، بل في “من يروي ما جرى؟”، ومن يملك سلطة تعريف الحقيقة التاريخية. التاريخ ليس مرآة، بل جهازٌ ينتج المعنى. ومن هنا تبدأ الأيديولوجيات بالتسلل: كلُّ سردية كبرى تطمح لأن تُقنِع الناس أن ماضيها هو الحقيقة، وأن غيرها مجرد وهم. فترى القوميّ يبالغ في تمجيد السلف، والدينيّ يعيد صياغة الخلق وفق رواياته، والتقدميّ يعيد رسم التاريخ كصراع طبقي دائم.
في هذه اللحظة، لا يعود التاريخ دراسة لما مضى، بل حقل ألغام رمزي تُزرع فيه الروايات لأغراض سياسية. وتغدو الحفريات ذاتها — حين تقوم بها سلطة استعمارية أو قومية أو دينية — فعلًا عنيفًا في جوهره؛ نبشًا متعمدًا في مزابل التاريخ لإثارة الروائح الكريهة، لا بحثًا عن الحقيقة، بل لتسميم الحاضر. فليس أخطر ممن يقلب العظام القديمة سلاحًا أيديولوجيًا.
ندرس التاريخ لا لنمجّد الأجداد، بل لنفهم كيف تحولوا إلى “أجداد” لا إلى “أشباح”. ندرسه لا لنحيي الملاحم، بل لنفكك البنى التي أنتجتها، ونسائل اللحظة التي شرعنتها. ندرسه لا لأن الماضي مقدّس، بل لأن المستقبل هشّ، ولا يُبنى إلا بذاكرة مفكّكة من الأوهام.
الحقيقة أن التاريخ لا يُعيد نفسه، بل نحن من نعيد إنتاج مآسيه حين نجهله أو نُزيّفه. ولذلك، فإن التاريخ – حين يُمارس بوصفه علمًا مادياً ونقداً تفكيكياً – يتحول إلى أداة تحرّر لا إلى مرآة انكفاء. إنه عمل شاق ضد التكرار، ضد التقديس، ضد الهويات المتكلسة.
في عصر الانهيارات الرمزية، حيث تُختصر الحقيقة في “تغريدة”، يصبح التاريخ ممارسة سياسية عليا، لا لأنه يُروّج لماضٍ، بل لأنه يكشف كيف يُصنَع الماضي بوصفه سلطة. ولذا، فإننا لا ندرس التاريخ لكي نسكنه، بل لكي نخرج منه، ونرى عبره الوجه العميق للإنسان: الكائن الذي يروي، وينسى، ويخترع ماضيه كي يبرر سطوته على الحاضر.
إن التاريخ، حين يتحرّر من الأيديولوجيا، يصبح أكثر من سجلّ وقائع: يصير مرآةً قاتلة للوهم، وعتبةً لبناء وعي لا يُستَدرَج بسهولة إلى أسواق الأكاذيب.
(اخبار سوريا الوطن-٢)