الرئيس الفرنسي الذي يوجّه السهام إلى تاريخ الجزائر يسعى إلى دغدغة جمهور اليمين المتطرف في الانتخابات الرئاسية، لكن العودة إلى نفي تاريخ الاستيطان الاستعماري تدلّ على أزمة الانحدار الفرنسيّ في الداخل والتوازنات الدولية.
الانقلاب على محاولة إمساك العصا من النصف إلى النقيض، لا تقتصر دلالاته على مقتضيات الاحتفاظ بالسلطة في الانتخابات الرئاسية، ونتيجة التقارب الجزائري نحو روسيا في إطار تعدّدية التوجّه الذي لم يصل إلى مشارف طيّ الصفحة الفرنسية.
مراهنة ماكرون على “مصالحة الذاكرة” التي اختارها في حملته الانتخابية الأولى لترويج الانطباع بالتعالي على انقسامات الهوية، اصطدمت بحاجز فولاذي فرنسي سميك أشار إليه فرنسوا ميتران في ردّه في العام 1982 على انتقادات اليسار لدى تكريمه جنرالات ارتكبوا جرائم في الجزائر، بقوله: “لا تتحمّل فرنسا أن ننكأ جرحاً غائراً في أعماق تمسّ هيبة الدولة”.
شارل ديغول الذي تعاطف مع المستوطنين الفرنسيين بعبارة “لقد فهمتكم” الشهيرة من شرفة الحاكم العسكري للجزائر بتاريخ 4 حزيران/يونيو 1958، أدرك استحالة استمرار الاستيطان والضم بعد احتلال دام 132 سنة (1830 – 1962) لم تستكن خلالها ثورة الاستقلال.
على الرغم من هزيمة ديان بان فو المرّة في فيتنام (7 أيار/مايو 1954)، والهزيمة الأمر في السويس (20 آب/أغسطس 1956)، انصاع ديغول للهروب من الجزائر بعد كلِّ المحاولات اليائسة، فقد ظلّ يأمل بقدرة فرنسا على إثبات وجود الدولة العظمى في أوروبا والتوازنات الدولية، متجاوزاً البكاء على الأطلال مع المستوطنين، والذي يستعيده ماكرون.
لم تعترف فرنسا الرسمية بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها في الجزائر، لكن تاريخ فرنسا وتاريخ الثورة يكتبها ويوثّقها حوالى 5 آلاف كتاب (تقديرات بينجمان ستورا)، تنشرها دور النشر الفرنسية الكبرى ومراكز الأبحاث والأرشيف والوثائق الحكومية.
قد يكون أقلّ من 10% منها محاولة للتسويف بذريعة “رفض الكراهية”، على غرار تأريخ بينجمان ستورا وأمثاله. أما الباقي، فهو تأريخ علمي موثوق، من بينه تأريخ “شارل – روبير آجرون” (حزب استعماري أم فرنسا الاستعمارية في العام 1978؟) وتأريخ مصطفى الأشرف (أمة ومجتمع، ماسبيرو، 1965)، وهو غيض من فيض.
وليس بين كلِّ وثائق التاريخ الفرنسية وكتبها المرموقة ما يشير إلى قول ماكرون: “إنَّ التاريخ الرسميّ للجزائر أُعيدت كتابته بالكامل ريعاً للذاكرة كرّسه النظام السياسي – العسكري”، بل على العكس من ذلك.
المؤرّخون الَّذين كتبوا التاريخ جلّهم فرنسيون وأوروبيون، استناداً إلى وقائع وحقائق، وليس إلى “كراهية فرنسا”، بحسب ماكرون، بل إلى كراهية الاستعمار الفرنسي، وإلى تكريم الفرنسيين الذين ساعدوا الثورة الجزائرية على “نقل الحقائب” وقُتلوا تحت التعذيب، مثل موريس أودان وغيرهم.
تزوير التاريخ الذي يعد ماكرون بإعادة كتابته باللغتين العربية والأمازيغية، نجد شذراته في مقالات اليمين المتطرف وصهاينة فرنسا والمغرب العربي وأقاويله، وهو يتقصّد إهانة القبائل وتبخيس نضالاتهم وحقّهم في “أرض لم يكن فيها أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي”، كما يزعم ماكرون.
الحقيقة التاريخيّة تثبت أنَّ الجزائر تصدّت للغزو الاستعماري منذ اللحظة الأولى، بعربها وأمازيغيها وقبائلها، واستمرّت بالثورة حتى التحرير والاستقلال، فثورة الأمير عبد القادر الجزائري في العام 1836، تبعتها ثورة الشيخ المقراني في منطقة القبائل في العام 1871، وثورة الشيخ الحدّاد الأمازيغي والشيخ محمد بن عبد الرحمن في العام 1879…
المناضلون الأمازيغ كانوا السّباقين في تنظيم الثورة وجبهة التحرير التي تفجّرت في مؤتمر الصومال بتاريخ 20 آب/أغسطس 1956 في منطقة القبائل، بدعوة من عباد رمضان، وبمشاركة قياديين من الأمازيغ، كحسين آيت أحمد وكريم بلقاسم وآخرين من العرب والقبائل. وفي قيادة جيش التّحرير، تبوّأ الأمازيغ القيادة والنضال، وفي طليعتهم الشاوي هواري بو مدين.
أزمة فرنسا العصيّة على المصالحة مع نفسها والاعتراف بتاريخها يزيدها الإنكار توتّراً، ويهدّد بالمضي قدماً نحو قعر الانحدار في التوازنات الدوليّة، كما يهدّد بانفجار أزمة الاستقرار الأمنيّ الداخليّ ضدّ الهجرة والفرنسيين من أصول عربيّة وإسلاميّة.
الملايين الخمسة، بحسب الإحصاءات الرسمية (8 ملايين بحسب التقديرات)، تأخذهم فرنسا الرسمية رهينة حروب غريزية خطيرة لابتزاز دولهم الأصلية ونهب ثرواتها وتدمير مجتمعاتها، لكن دولهم السابقة ترميهم للذئاب لقمة سائغة، وتجعلهم عرضة للفوضى والتسيّب في أحيائهم، ووقوداً لازدهار العنصرية والفاشية المعادية للعرب والمسلمين.
(سيرياهوم نيوز-الميادين7-10-2021)