سركيس قصارجيان
بعد التحوّل الكبير الذي شهدته الساحة السورية في 8 كانون الأول/ديسمبر، اتجهت الأنظار خصوصاً إلى موسكو، الحليف التقليدي للرئيس السوري المخلوع بشار الأسد، العدوّ المفترض للرئيس السوري أحمد الشرع، الذي وجد نفسه في قلب معادلات سياسية وعسكرية تتطلب توازناً دقيقاً بين القوى الإقليمية والدولية.
وعلى عكس التوقّعات المتسرّعة، برزت روسيا كلاعب أساسي في مرحلة الشرع أيضاً، ساعية إلى الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية، متأرجحة بين دعم السلطة الجديدة والحفاظ على نفوذها في منطقة الساحل السوري خصوصاً، كنوع من الضمانة الميدانية.
روسيا بعد الأسد: استراتيجية النفوذ والمرونة السياسية
تمتد العلاقة التاريخية العميقة بين روسيا وسوريا إلى الحقبة السوفياتية حين تلقى العسكريون السوريون تدريبات مستمرة في موسكو، واستمر هذا الترابط حتى بعد انهيار الاتّحاد السوفياتي.
عززت روسيا خلال السنوات الأخيرة من وجودها العسكري في سوريا عبر قاعدة حميميم الجوّية وطرطوس البحرية، وذلك على خلفية التدخّل المباشر في الحرب السورية منذ أيلول/سبتمبر 2015، في خطوة لم تكن مجرد دعم للأسد، بل كانت جزءاً من سياسة استراتيجية شاملة تهدف إلى الحفاظ على مصالحها في الشرق الأوسط، بعد الضربة الموجهة التي تلقّتها في شمال أفريقيا بعد الإطاحة بنظام القذافي في ليبيا على يد حلف الناتو.
مع الإطاحة بالأسد، لم تتخلّ روسيا عن سوريا، لكنها وجدت نفسها أمام ضرورة إعادة ترتيب استراتيجياتها. فقد أدركت موسكو مبكراً أن استنزاف الجيش السوري وارتفاع مستويات الفساد وضعف الرواتب وتراجع قدرة الدولة على السيطرة، جعلت الاستثمار في الأسد أقلّ فعالية من الناحية الاستراتيجية، الأمر الذي دفعها إلى القبول بحلول تضمن استمرار نفوذها بغض النظر عن هوية القيادة السورية، في توجّه يعكس فلسفة واضحة: الحفاظ على المصالح الاستراتيجية عبر المرونة السياسية، لا الولاء لشخص معيّن.
تتمحور مصالح روسيا في سوريا حول عدة أبعاد رئيسية: العسكري، الاقتصادي، والدبلوماسي.
من الناحية العسكرية، تحرص موسكو على الحفاظ على قواعدها ومراكز نفوذها، بما يشمل القدرة على التحرك في البحر الأبيض المتوسّط، والحفاظ على الجسر الجوي مع أفريقيا عبر الشرق الأوسط، من خلال قواعدها في الساحل السوري.
اقتصادياً، تسعى روسيا للحفاظ على مصالحها في قطاع الطاقة والبنية التحتية. وتنظر موسكو إلى سوريا كساحة لتحقيق مصالح أوسع، مثل ضمان أمن خطوط الأنابيب البحرية وحماية المصالح الروسية في شرق المتوسط، إلى جانب تطوير العلاقات مع الدول العربية بما يحقق استقرار النفوذ الروسي.
ديبلوماسياً، تؤدي روسيا دور الوسيط والمراقب، فهي تحافظ على اتصالات مع إيران وإسرائيل وتركيا، وتوازن بين مصالح هذه الأطراف المختلفة. في الوقت نفسه، تعيد روسيا ترتيب علاقاتها مع السلطة الحالية في سوريا ومعارضيها في الوقت ذاته، دون التورّط المباشر في الصراعات الداخلية.
الوجود الروسي في سوريا: من البنية التحتية إلى الجيش الجديد
وبالنسبة إلى الإدارة المؤقتة في سوريا، فالتقارب مع روسيا ليس خياراً ثانوياً، بل ضرورة استراتيجية يفرضها الواقع الصعب الذي وجد الشرع نفسه أمامه: ضغوط سياسية وتحدّيات أمنية داخلية وخارجية واقتصاد مدمّر، وسط الحاجة إلى ضمان استمرارية الدعم العسكري والاقتصادي والسياسي.
تبدو روسيا شريكاً محورياً لدمشق فهي قادرة على:
– توفير الدعم السياسي اللازم أو على الأقّل عدم إعاقة صدور قرار أممي بإزالة الشرع وبعض وزرائه من قوائم الإرهاب التابعة لمجلس الأمن.
رغم الاختراق الطفيف الذي حدث خلال السنوات الأولى من حكم الأسد الابن من قبل شركات أوروبية، فإن البنية التحتية السورية أنشأتها بغالبيّتها الشركات السوفياتية والروسية لاحقاً. من السدود إلى الصوامع ومن محطات الطاقة إلى مصافي النفط، ومن منشآت الصناعات الثقيلة إلى مراكز البحوث، يبدو ختم “صنع في روسيا” واضحاً بحيث لا يمكن استبداله على المدى القريب والمتوسّط في ظل انهيار الاقتصاد السوري، والعقوبات الأميركية والأوروبية المستمرة على نظامها المالي.
وفي القطاع الاقتصادي، لا تزال سوريا بحاجة ماسة إلى مشتقات الطاقة، التي يمكن لموسكو تقديمها لدمشق بأسعار أقل ودون الاكتراث للعقوبات الدولية وتعقيداتها الخاصة بطريقة الدفع وبوالص تأمين الناقلات وغيرها. وتبدو روسيا الوجهة المحتملة لطباعة العملة الورقية الجديدة التي تعتزم دمشق إصدارها قبل نهاية العام الجاري.
وفي القطاع العسكري، فإن التسليح الروسي للجيش السوري الذي يتّبع النظام الروسي في قواعده الانضباطية والإدارية أيضاً، يجعل من موسكو الجهة الوحيدة القادرة على دعم الجيش السوري الجديد، بالتنسيق مع أنقرة: شريكة روسيا في الملف السوري منذ سوتشي وآستانا، والتي وقّعت على مذكرة تفاهم أولية مع حكومة الشرع للشراكة الدفاعية.
أما من الناحية الأمنية، فإن العلاقة الخاصة التي تجمع موسكو مع بعض الأقلّيات السورية غرب البلاد خصوصاً، وإيواء حميميم للهاربين من مجازر الساحل، وصولاً إلى تجربتها السابقة في إدارة الجنوب السوري منذ اتفاق درعا عام 2017، يجعل منها وسيطاً مقبولاً من قبل تل أبيب لتبديد مخاوفها الأمنية.
توازن القوى السورية: موسكو، أنقرة، إسرائيل وواشنطن
رغم كل ما سبق، فإن مصالح الشرع ليست مطابقة تماماً لمصالح موسكو. فالإدارة المؤقتة بحاجة إلى توازن بين القوى الفاعلة في الملف السوري من أجل تعزيز شرعيتها، ما يخلق ديناميكية معقدة، حيث يتحتم عليه العمل ضمن شبكة واسعة من التوافقات السياسية والاستراتيجية للحفاظ على الدعم الروسي، مع عدم استفزاز الغرب وأنقرة، لضمان القدرة على المناورة.
التقارب بين موسكو ودمشق لن يزعج تركيا، التي ترى في روسيا منافساً أقل خطورة في سوريا مقارنة بإيران وإسرائيل وفرنسا وغيرها، كما يفتح الطريق أمام أنقرة لاستغلال هذا التقارب لصالحها، عبر تثبيت الاستقرار في الساحل والجنوب السوريين والانخراط في مشاريع إقليمية كخطوط الطاقة والطرق التجارية، التي تتطلب جواً من الاستقرار الطويل الأمد.
إسرائيل، من جهتها، تراقب الوضع بارتياح، خصوصاً في ظل علاقاتها الاقتصادية والتقنية مع موسكو، بما في ذلك التعاون الدفاعي والأمني. وتدرك إسرائيل أن التقارب الروسي-السوري سينقص من حصة النفوذ التركية في البلاد، وسيضمن عدم تحول سوريا إلى قاعدة للهجمات ضدها.
تقارب موسكو ودمشق يمثل تحدّياً للولايات المتحدة، إذ يعيد روسيا لاعباً أساسياً في سوريا، لكنه لا يحدّ من قدرة واشنطن على التأثير المباشر في السياسة الداخلية السورية، خاصة في ما يتعلق بالانتقال السياسي والعقوبات الدولية وملف الأكراد والاتّفاق مع تل أبيب.
تتصرف روسيا بعد الإطاحة بالأسد بمنطق الاستراتيجية والمصالح. فهي تعمل على إعادة ترتيب النفوذ السوري عبر دعم البديل، للحفاظ على مصالحها الاقتصادية والعسكرية والديبلوماسية، مع التوازن بين تركيا وإسرائيل.
في المقابل، تسعى الإدارة السورية، من خلال الاعتماد الجزئي على موسكو، إلى تذليل العقبات الأمنية والعسكرية والاقتصادية التي تهدد تحوّلها إلى سلطة دائمة، وترى في تجديد اتفاق القواعد العسكرية الروسية وغيرها من التفاهمات الاقتصادية، ومنها استخراج الفوسفات على سبيل المثال، وسيلة فعّالة لضمان الدعم الروسي لها سواء في الميدان السوري أو أروقة الأمم المتّحدة.
أخبار سوريا الوطن١-النهار