| وليد شرارة
القصف الروسي لمراكز القيادة العسكرية في أوكرانيا، ولأنظمة الاتصالات والطاقة فيها، يعطي لمحة أوّلية عمّا قد تشهده الحرب الدولية الدائرة في هذا البلد من احتدام، وما يستتبعه من أهوال. تستنكر العواصم الغربية ما سمّته الهجمات «الوحشية» الروسية، وتعِد كييف بالمزيد من السلاح والعتاد، للمضيّ في مواجهةٍ سبق لوزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، أن حدّد هدفها، وهو «إضعاف روسيا». خبراء استراتيجيون وأمنيون غربيون كانوا أكثر وضوحاً عندما أفصحوا، عبر «توقّعاتهم»، عن المعنى الفعلي لـ«الإضعاف»، وهو التسبّب بانهيار الدولة وتفكيك وحدتها الترابية. القيادة الروسية قرّرت استعراض قوّتها النارية التدميرية في مقابل استراتيجية التدمير الغربية التي تستهدفها. وعلى الرغم من إدراكها منذ زمن بعيد الغايات الفعلية للإصرار الغربي على توسيع «الناتو» شرقاً، وصولاً إلى حدودها، فهي اعتمدت سياسة التحذير، ومن ثمّ التصعيد الميداني التدريجي لترْك باب التسوية السياسية مفتوحاً.
المرّة الأولى التي حذّر فيها فلاديمير بوتين من مغبّة ذلك الإصرار، كانت خلال خطاب ألقاه في مؤتمر ميونيخ للأمن في 2007. لم تلقَ تحذيراته آنذاك آذاناً صاغية، بل تبعها في قمّة «الناتو» في بوخاريست في نيسان 2008، تأكيد وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك، كوندوليزا رايس، أن أوكرانيا وجورجيا ستنضمّان في المستقبل إلى الحلف. تدخّلت روسيا عسكرياً في جورجيا في آب 2008، على خلفية النزاع بين الأخيرة وأوسيتيا، لإفهام «الناتو» جدّية معارضتها لوصوله إلى حدودها. الأمر نفسه تَكرّر في أوكرانيا، بعد الثورة الملوّنة التي أطلقها الغرب فيها سنة 2014، حيث قامت موسكو أيضاً بالتدخّل عسكرياً في شرقها وضمّ القرم. وإذا عُدنا إلى مقدّمات الحرب الراهنة، فسنجد المقاربة التدريجية نفسها، التي تُرجمت حشداً «تحذيرياً» للقوّات الروسية على حدود أوكرانيا في نيسان 2021، ومرّة ثانية في أواخر العام نفسه وبدايات العام الحالي، ترافقاً مع عروض لتحييد هذا البلد، وفق نموذج فنلندا خلال الحرب الباردة، من دون تجاوب أطلسي يُذكر.
المنطق إيّاه انطبق على التدخّل العسكري منذ 24 شباط، والذي انحصر عملياً بالشرق الأوكراني، وتَميّز بسعي لتجنّب إيقاع خسائر كبرى في صفوف المدنيين، وبعدم استهداف الغرب الأوكراني ومدنه عسكرياً. ارتبط ذلك بكلّ تأكيد بِرهان على بروز معارضة في صفوف الطبقة السياسية في هذا البلد، وفي أوساط شعبه، للانقياد الأعمى خلْف استراتيجية «الناتو»، وما يترتّب عليها من أكلاف. لكنه نجم أيضاً عن تصوّر يفترض وجود جناح معتدل، متمثّل في فرنسا وألمانيا وإيطاليا، في المعسكر الغربي، سيحاول طرْح حلول سياسية للحؤول دون استعار الصراع الجاري على بوّابة أوروبا واحتمال توسّعه، ناهيك عن الخسائر الكبيرة الناجمة عنه بالنسبة إلى اقتصادات تلك الأطراف. التطوّرات اللاحقة، وفي مقدّمتها صيرورة «الناتو» «غرباً جماعياً»، وانخراطه في أكبر عملية ضخّ للقدرات العسكرية والمادّية منذ الحرب العالمية الثانية ضدّ روسيا، وغياب أيّ رفض شعبي وازن للحرب في داخل أوكرانيا، والأخطر، شنّ عمليات أمنية – عسكرية خطيرة في داخل أراضي روسيا، كانت كفيلة بإقناع القيادة الروسية بضرورة الانتقال إلى مستوى أعلى من المجابهة، واستخدام قدْر أكبر من القوّة والحزم، والتلويح بالاستعداد للذهاب نحو الصدام المباشر مع مَن يحارب موسكو بالوكالة.
الكثير ممّن يتناولون الحرب في أوكرانيا، أساساً في الغرب، ويشجبون القصف الروسي للبنى التحتية فيها، نسوا ماهية الحروب التقليدية الطويلة، لأنهم تمتّعوا لعقود مديدة بالسلام ورغد العيش، بينما كانت جيوشهم تنشر الموت والدمار في أنحاء جنوب العالم. مَن نسي منّا مثلاً ما قاله الجنرال الأميركي، نورمان شوارزكوف، قائد عملية «عاصفة الصحراء»، لإخراج القوّات العراقية من الكويت في 1991، عندما وعد بـ«إعادة العراق إلى العصر الحجري»، أي تدمير بناه التحتية، وليس مجرّد ضرب قوّاته الموجودة في البلد المذكور. وظيفة القصف الجوي، كما أشار الكاتب السويدي، سفين ليندكفيست، في كتابه المهمّ «تاريخ القصف الجوي»، في سياق الحروب التقليدية الطويلة، لا تقتصر على استهداف القوّات المعادية على الجبهة، بل تتعدّاه إلى ضرب أعماق الدولة العدوة، لتدمير بناها التحتية وتحويل حياة سكّانها إلى جحيم، والضغط على قيادتها السياسية، وتحطيم معنويّات جنودها على الجبهة. هذا، على سبيل المثال لا الحصر، ما فعله طيران الديموقراطيات العتيدة، أي الولايات المتحدة وبريطانيا (722 قاذفة بريطانية و527 قاذفة أميركية) عندما قصف مدينة دردسن الألمانية بين 13 و15 شباط 1945، بـ 3900 طنّ من القنابل الشديدة الانفجار والقنابل الحارقة، فقَتل ما بين 22700 و25000 من سكّانها. هذه هي القواعد الفعلية للحروب التقليدية الطويلة، وخاصة إذا كانت حروباً عالمية مصيرية. ذلك أيضاً ما ارتكبه الطيران الأميركي، أي قصف المدن والبنى التحتية، خلال حروب فيتنام وكمبوديا والعراق وأفغانستان وليبيا.
القصف الروسي الأخير يعطي لمحة أوّلية عمّا ستؤول إليه الحرب
مَن نسي تلك الوقائع عليه أن يستفسر عن معنى اللجوء إلى تكتيك «سجادة القنابل»، أي قيام القاذفات الاستراتيجية بقصف مساحات واسعة، حضرية وريفية، بآلاف القنابل لحرق الأخضر واليابس. لم تفعل روسيا مثل هذا الأمر في أوكرانيا حتى الآن، على رغم استطاعتها القيام به. لم تُكرّر أيضاً ما قامت به في غروزني، عاصمة الشيشان، في 1994، وفي أواخر 1999، والذي أدّى إلى تدمير القسم الأعظم منها. لكن العوامل المُشار إليها سالفاً، وأهمّها الانخراط الغربي الجماعي في الحرب على روسيا، وما يَظهر من وحدة داخل الغرب الأوكراني حول قيادة فولوديمير زيلنسكي، قد تكون كفيلة بتغيير التعامل الروسي بمجمله. القصف الروسي الأخير يعطي لمحة أوّلية عمّا ستؤول إليه الحرب، وكيف ستواجَه استراتيجية تدمير روسيا باستراتيجية تدمير مضادّة قد لا تقف عند حدود أوكرانيا.
سيرياهوم نيوز3 – الأخبار