آخر الأخبار
الرئيسية » كتاب وآراء » لم يقتل قابيل هابيل باسم الشيطان… بل باسم الله!

لم يقتل قابيل هابيل باسم الشيطان… بل باسم الله!

 

سمير التقي

 

يقول نيتشه: “احذر، وأنت تصارع الوحوش من أن تصير وحشاً مثلها”. من محاكم التفتيش، إلى الحروب الصليبية، مروراً ببشار الأسد وداعش، وصولاً إلى نتنياهو، لا تُرتكب الجرائم باسم الشرّ المُعلن، بل باسم الحقّ المقدّس والرسالة الخالدة والتقرّب من الله.

 

منذ بداية الثورة الزراعية، كانت سوريا، الواقعة على خطوط اشتباك الكتل الاستراتيجية الكبرى، ساحة أو شريكاً في صراعاتها. حين تضعف سوريا، يصبح الصراع عليها. وحين تقوى، تصبح ندّاً وشريكاً في توازن القوى، بل يصير ثراؤها البشري والفكري حاضناً عشرات الأنبياء والعقائد، بدءاً بالديانات السماوية، ووصولاً إلى الفكر القومي. وفي كلّ مرّة نفضت سوريا العصبيات العقائدية، وانفتحت نحو الحرّية الفكرية والفلسفية والدينية، صعدت على جبين التاريخ، لتصير بؤرة انصهار ثقافي هائل. وحيثما انكفأت على العصبية وظلام الفكر، يبست واضمحلّت، لتصير بوراً لأهلها وللعالم.

 

لكن، تعود لعنة الصراعات العقائدية لتُحبط كل رخاء سوري، وتلفظ سوريا زبدة خيراتها ونخبة أهلها نحو المهاجر، كلّ جيل أو بضعة أجيال. وإذ يطيب التفاخر لأهل الشام بالنجاحات العظيمة لأبنائهم في المهاجر، يستبطن فخرهم فشلهم المدقع والمزري في بناء وطنهم وهويتهم كقوم سوري متحضر ومزدهر. وبعدما كانت سوريا مهد إبداعات حضارية هائلة، من القمح إلى الزجاج والخزف وميكانيكا الساعات وفولاذ السيوف الدمشقية، وبعدما دحرتها الحروب العقائدية المؤبدة، طفش صُنّاعها ومفكروها، من أصقاع روما والأندلس إلى الصين.

 

الجديد أيضاً أن سوريا صارت – بعد تحريرها من ربقة الأسد – في أضعف أطوارها وأوهن لحظات سيادتها الوطنية، ليهدّد صراع “الكل ضد الكل” مصيرها، بل وجودها كدولة خديجة؛ إذ لم يترك نظام الأسد رابطة وطنية إلا فكّكها، ولا عقداً اجتماعياً وثقافياً إلا مزقه. والجديد أيضاً أن جاهلية العصبية الطائفية صارت هوية مسلحة قاتلة، والجديد أيضاً وأيضاً أن الكتل الاستراتيجية الدولية والإقليمية تتلاطم الآن بقوة كاسحة حول سوريا.

 

فعلامَ يتقاتل السوريون؟ إنهم يختلفون على نموذج الدولة الراهن! يختلفون على نموذج دولة تفرضه هيئة تحرير الشام، كقائد عقائدي سلفي جهادي انتقامي لا يقبل الاختلاف مع السنّة أولاً، بل يريد فرض نموذجه على المجتمع بكلّ مكوّناته.

 

هذا هو المضمون العملي للإعلان الدستوري الراهن، الذي يرفضه كثيرون من السوريين، بل يرفضون أن تصير السلفية الجهادية عقيدةً للبلاد وجوهراً للتثقيف والولاء للجيش والأمن، لتصبح قنابل موقوتة تنفجر الواحدة تلو الأخرى.

 

القوم الأغلبي السنّي المديني هو غير طائفي بالتعريف! بل إنه يعرّف نفسه تاريخياً بتديّنه الأشعري أو الصوفي، أو قل ما شئت من مذاهب سنّية حضارية منفتحة. إنه لم يعرّف وطنيته يوماً بالطائفية، حتى تحت مذبح الأسد.

 

بل يقف هذا القوم الأكثري المديني، وفي مقدمه السنّة، والمواطنون من كل الطوائف والإثنيات والانتماءات المدنية والعلمانية السورية، معاً ضد استباحة الدم السوري وضد التجييش العقائدي الأعمى كأساس للولاء للدولة.

 

فبدلاً من السعي لفتح حوار وطني يؤدي إلى توافق طوعي يُعيد السلم الأهلي، ها هو الجنون الطائفي يستعر ليقطع أواصر العيش المشترك، وهذا أكثر ما تنتظره قوى خارجية كثيرة.

 

وفيما تُطرد كل معالم التحضّر الوطني السوري الجامع، ويُلغى أبو العلاء المعرّي وأبو فراس الحمداني ونزار قباني وبدوي الجبل من المناهج، وتُهدم تماثيلهم في المدن السورية، يتسامى القوم الأكثري المديني الجامع لكل الطوائف على الملل والنحل، ويرفض السلفية الجهادية الأحادية، حتى لو استندت إلى مظلومية الأكثرية.

 

لا يمكن لجماعة عقائدية، تعتنق السلفية الجهادية الانتقامية، إخراج البلاد من هذه المحنة. فلقد آثرت هذه القوى ذاتها تقسيم فلسطين والسودان وليبيا ولبنان والعراق على أن تتخلى عن مشروعها العقائدي.

 

وبغضّ النظر عن تحوّلات الأفراد، ومصالحهم، لا يُصدّق السوريون أعجوبةً لم تحصل من قبل في التاريخ، من إمكان ترويض الجماعات بأسرها لتغيير عقيدتها ولتتصدّر بناء دولة مدنية، حتى لو تبنّتها كل قوى الأرض.

ثم إنّ مستوى وهن البلاد وفقر أهلها وانهيار بنيتها عوامل لا تتيح ترف الاقتتال والدماء، بل تنتج تفككاً نهائياً للبلاد، أكثر بكثير ممّا فعل الأسد.

 

ألا لعن الله كل المقاتلين الانتقاميين، إلا من ذاد عن داره وأرض أهله. وإزاء المذابح الجماعية، لا يبقى ثمة طواطم، ولا قوة محرّمة، لا حميدة أو خبيثة.

 

بعد الغزوة الحمقاء ضد أهلنا في السويداء، وبعد هياج “الحشد الشعبي” العشائري الذي طالما استوكله الإيرانيون والروس وقوات الأسد، لم يعد من أمل في أن يسلم أحد سلاحه، حتى بالقوة… لا في شرق الفرات، ولا حتى في حلب وحماة.

 

توجد 14 قوة دولية حكومية وغير حكومية على الأراضي السورية، وسيكون من الحماقة الرهان على الغلبة العسكرية الواهية لتوحيد البلاد. إنها سذاجة ثورية من نمط جديد! فما بين التسييد الإسرائيلي والصعود التركي والتربص الروسي والترقب الإيراني، تنخرط أميركا وأوروبا لضبط خصومة وكلائها! فتتشابك الرماح الإقليمية صراعاً على حصص حروب الطاقة، وحروب خطوط التجارة، وحروب الممرات البحرية، وحروب التفويض الإقليمي.

 

وثمة من يعتقد أنه إذا سار في منطق القوة ضد مواطنيه فسيفوز بتفويض إقليمي أو دولي. ويا لها من سذاجة متكرّرة. بل سار بعضهم للتنازل للغرباء أجمعين – “انصرونا نضمن مصالحكم”، ليصبحوا مثل تاجر العقارات الذي يبيع الأرض عدة مرات كي يفوز بالعربون، وبعدها فليأتِ الطوفان. وكل ذلك لأنهم لا يتصوّرون تقاسم السلطة في الوطن عبر شراكة حقيقية مع الجميع.

 

أمام هذا السعار الطائفي الطاغي، يصفّق الأتراك والإيرانيون والإسرائيليون والروس والأميركيون: “اذهبوا وقاتلوا واقتلوا أقرانكم السوريين، وبعدها نتفاهم”؟! إنهم لا يرون في السوريين إلا رعاعاً وحمقى عقائديين! ولن تكون العصبيات الطائفية، كبرت أو صغرت، إلا طريقاً لتأبيد القتل والفشل الوطني.

 

هل السوريون قادرون على العيش المشترك؟ هل تبقى سوريا؟ تفضّل القوى الكبرى سوريا مضبوطة بالاستبداد أو التوافق، وكانت تلك سياساتها تجاه الأسد، الذي استطاع دائماً ضبط البلاد والتوافق معهم. وإلا فليسقط.

 

فإن بقيت سوريا موحّدة يسودها السلم الأهلي، استبداداً أو توافقاً، فسيسعون لإدماجها في خرائطهم. وإن لم تتمكن، فليقتطع كل طرفٍ قطعة منها، وليبق الصراع بين السوريين مؤبّداً، و”فخار يكسّر بعضه”.

 

مع كل قطرة تسيل من دم سوريا، تُستنفد فرص العيش المشترك، ويتلمّظ الجيران والمتدخلون، لإذكاء نار التطهير العرقي. فليتحرّك السوريين لإنقاذ وحدة البلاد في رمقها الأخير، وإلا “فأنت إن أطلت التحديق في الهاوية خوفاً من السقوط فيها، سرعان ما تأتي الهاوية إليك”.

 

أخبار سوريا الوطن١-النهار

x

‎قد يُعجبك أيضاً

أسئلة مع جراح السويداء والوطن

    أحمد رفعت يوسف   مع كل مرة تدخل فيها سورية في منعطف خطير، أحاول أن اتروى في الكتابة، حتى لا أكتب وأنا تحت ...